المبادرة الوطنية 2020: من اتفاق الطائف إلى 17 تشرين - ايلي القصيفي

المبادرة الوطنية 2020: من اتفاق الطائف إلى 17 تشرين - ايلي القصيفي
الخميس 12 مارس, 2020

عديدة هي المواضيع/ الإشكاليات التي يتطرّق لها البيان التأسيسي لـ "حركة المبادرة الوطنية 2020" الذي تلاه النائب السابق فارس سعيد الأحد الماضي. ولعلّ أهمّها ما يرد في جملته المفتاحية الآتية: "إنّ المدخل إلى الخلاص الوطني، بما في ذلك الخلاص من الفساد والإنحلال بشتّى تجلّياتهما، يتمثّل بالعودة غيرِ الموارِبة إلى اتفاق الطائف والدستور، بوصفهما المرجعية التي لا غنى عنها لانتظام أي حراك إصلاحي إنقاذي". ويمكن اعتبار هذه الجملة بمثابة تلخيصٍ لتوجّهات الحركة الوليدة التي تستند، على ما يُظهر بيانها، إلى موضوعين أساسيين هما الدستور (ورد ذكره في البيان 9 مرّات) واتفاق الطائف (6 مرّات).

وإذا كانت هذه الحركة تأتي في سياق "الأزمة الحالية المتفجرة لاسيما بأبعادها الإقتصادية- المالية والإجتماعية الحالية"، فهي تتمايز عن سائر حركات ومبادرات ما بعد "17 تشرين" بأمرين؛ أوّلهما ردّها أسباب الأزمة تلك إلى "عامل سياسي رئيس هو استمرار الوصاية على لبنان منذ العام 1990 أكانت وصاية سورية أو إيرانية"؛ وثانيهما اعتبارها أن "لا خلاص وطنياً إلّا بالعودة إلى الدستور واتفاق الطائف، كنصيّن مرجعيين"، ومن دون تلك العودة "تبقى انتفاضة 17 تشرين الحميدة وسائر المبادرات الاعتراضية مجرّد تشنّجاتٍ بمواجهة فريق الوصاية ذي المرجعية الخارجية".

بالتالي فإنّ الحركة وبمقدار ارتباطها التكويني بالواقع السياسي والإقتصادي – الاجتماعي الذي استجدّ بعد "17 تشرين"، فهي إذ تسيّس الأزمة، اولّا بردّها إلى عامل سياسي هو إستمرار الوصاية، وثانياً بركونها إلى الدستور واتفاق الطائف كنصين مرجعيين لها، تَظهرُ على تباين مع غالبية مجموعات الانتفاضة وأفرادها الذين وجّهوا انتفاضتهم ضدّ السياسات المالية والاقتصادية للسلطة وضدّ ممارسات الفساد في كنف الدولة، من دون ربط تلك السياسات والممارسات بعامل سياسي مباشر، ومن دون ربط الإنقاذ والإصلاح بموجبات الدستور ووثيقة الوفاق الوطني.

غير أنّ هذا التباين بين الحركة والانتفاضة ليس مطلقاً بطبيعة الحال. فـ"المبادرة الوطنية 2020"، تربط في الفقرة الثالثة من بيانها بين الفساد والوصاية على قاعدة أنّ "الوصاية تحمي الفساد والإنحراف، وهذان الأخيران يحميان الوصاية، إلى حدّ مبادَلة المناصب والامتيازات بالسيادة". وتضيف أنّ "كل أطياف السلطة من دون استثناء شاركت في هذه المقايضة المغامرة تحت مسمّى التسوية". وبهذا الربط بين الفساد والوصاية تكون الحركة قد أعادت الشَبك مع شعار الانتفاضة: "كلّن يعني كلّن"؛ وإن كانت تستهدف هذه السلطة بأحزابها جميعاً من منطلق طبيعتها السياسيّة بوصفها سلطة المقايضة هذه والمبادَلة تلك. وهو توصيف للسلطة لم يَسُد مناخ الانتفاضة العام. بالتالي فإنّ تأويل الحركة لطبيعة السلطة يرتّب عليها أولويات سياسيّة تجعل ديناميتها موجّهة، بالدرجة الأولى، ضدّ الوصاية، وهي في الراهن إيرانية، بصفتها "رأس" سلطة المقايضة والمُبادلة المشار إليهما.

وعليه فإنّ اتخاذ الحركة من الدستور واتفاق الطائف نصّين مرجعيين لها لهو مرتبط أساساً بديناميتها الرئيسية ضدّ الوصاية والأحزاب المشاركة في "المقايضة المغامرة" والتي "سرّعت في انهيار الهيكل على رأس الجميع ووضع الجميع في موقع المتّهم". أي أنّها تتعامل مع الوصاية ونتائجها السياسية والاقتصادية - الاجتماعية كنقائض لوثيقة الوفاق الوطني والدستور لا كنتائج مترتبّة عنهما، على ما يرى العديد من نخب ومجموعات الانتفاضة.

والحال هذه فإذا كانت الحركة قد اقتضبت في تفنيدها أسباب ودواعي ركونها إلى الدستور واتفاق الطائف، فهي ربطت بين هذين النصّين وبناء الدولة في لبنان، بقولها في مطلع بيانها إنّ استمرار الوصاية على لبنان منذ العام 1990 عطّل قيام الدولة بناء عليهما. ثمّ ربطت بينهما وبين الواقع العربي الراهن باعتبارها أنّه من "المفارقات اللافتة في مشهد الحراك الشعبي العربي (...) أن يكون في صُلب شواغله البحثُ عن وثيقةٍ دستورية تعاقدية (...)، بينما نمتلك نحن اللبنانيين مثل هذه الوثيقة (...)، ولكننا نتصرّف اليوم وكأنّنا من جملة الباحثين!".

من الواضح أنّ "المبادرة الوطنية 2020" أرادت بربطها بين "وثيقة الوفاق الوطني" وبناء الدولة تظهير الراهنية اللبنانية لهذه الوثيقة في لحظة "انهيار الهيكل"، كحجّة أساسية للتمسك بهما في مقابل الفريق الذي "كان على الدوام يريد إلغاء الوثيقتين أو إعادة تفصيلهما على قياسه"، وكذلك في مقابل "الذين ارتضوا اتفاق الطائف والدستور - وهم الكثرة الكاثرة أو الراجحة – وهم اليوم يخجلون من إشهارهما مرجعيّةً ودليلَ عمل؟".

كما أنّها (الحركة) بإشارتها إلى بحث الحراك الشعبي العربي عن وثيقة دستورية تعاقدية، أرادت التأكيد على الراهنية العربية لـ "وثيقة الوفاق الوطني" والتعديلات الدستورية التي انبثقت عنها، كوثيقة كان منطلقها الأساسي إخراج لبنان من واقع الميليشيات والإقتتال الأهلي إلى واقع الدولة والسلم الأهلي، و"قد بات سلام لبنان ضرورة عربية" (غسان تويني 2002).  كذلك فإنّ المبادرة لم تغفل عن الراهنية الدولية لاتفاق الطائف بذكرها بيان "المجموعة الدولية لإنقاذ لبنان" في 12 كانون الاول الماضي، والذي "ربط مساعدة للبنان بالعودة للدستور واتفاق  الطائف فضلاً عن قرارات الشرعية الدولية المتصلة بلبنان".

وإذا كانت "المبادرة الوطنية 2020" تربط بين الراهنيات الثلاث لاتفاق الطائف بغية تأكيد صلاحيته المستمرة، فهي تفعل ذلك من منطلق قراءتها الخاصة لـ"وثيقة الوفاق الوطني"، وهي قراءة تحيل إلى قراءة سمير فرنجية، رفيق العديد من وجوه المبادرة، لـ"اتفاق الطائف ولمكانة العيش المشترك من هذا الاتفاق وللدينامية التي يوجب هذا الاتفاق أن تضع البلاد على سكّة التحوّل إلى ما بات يسمّى الدولة المدنية". (أحمد بيضون 2012). فالحركة وفي البند السادس من مبادئها الثمانية تلتزم بـ "وضع خارطة طريق للعبور بلبنان نحو الدولة المدنية وفقاً للآليات المنصوص عنها في اتفاق الطائف والدستور من خلال اعتماد نظام المجلسين"، والذي أريد منه في اتفاق الطائف "فصل الطائفية عن الدولة وحصرها في مكان واحد محدّد هو مجلس شيوخ، وبالتالي حرّر (الاتفاق) الدولة نظرياً من ضغط الطوائف عليها" (سمير فرنجية 2012) .

وأمّا في مبدئها السادس فتتعهد الحركة بالعمل على اسقاط نظام المحاصصة في السلطة الذي ضخّمته الوصاية السورية ومن ثمّ الوصاية الإيرانية وسلاحها، وهو ما يحيل مرّة أخرى إلى كلام فرنجية عن "اتفاق الطائف، الذي وإن أعطى الأولوية للإنسان الفرد على الجماعة، فهو لم ينتج كتلة عابرة للطوائف، ولا إنتج ثقافة اسميها ثقافة الطائف، وهذا تفسيره ليس فقط ان النظام السوري في وقتها هو الذي تولى تنفيذ اتفاق الطائف بالشكل الذي يريد، ولكن ايضا بقيت الحياة السياسية محكومة بعقلية الحرب، وبقينا محكومين بالصراع ما بين احزاب طائفية تبحث ماذا تستطيع أن تحسن في مواقعها"، (سمير فرنجية 2012). بمعنى آخر فإنّ إسقاط نظام المحاصصة ما هو إلا اسقاط لنظام الحرب ولنظام الوصاية من بعده.

إلّا أنّ السؤال المطروح في السياق عينه: هل انتجت انتفاضة "17 تشرين" كتلة عابرة للطوائف؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأي اتجاه ستتجه هذه الكتلة: هل تعود إلى "وثيقة الوفاق الوطني" والدستور وخصوصاً المادة 95 الذي تنشئ ما تسميه "مرحلة انتقالية" تطبّق في أثنائها "الخطّة المرحلية الآيلة إلى إلغاء الطائفية السياسية. (أحمد بيضون 2012)، أم تتجه نحو المطالبة بعقد إجتماعي جديد؟ وما خطّة "المبادرة الوطنية 2020" بإزاء إحتمالات هذين الخيارين؟

النهار