كلمة معالي الأستاذ فيصل بن عبد الرحمن بن معمر - النمسا

كلمة معالي الأستاذ فيصل بن عبد الرحمن بن معمر - النمسا
الأحد 24 نوفمبر, 2019

 

 السيدات والسادة،

أتقدَّم لكم أيها الأصدقاء الأعزاء، شركاء العروبة  والحضارة  والأرض، والمصير  بخالص الشكر والتقدير على دعوتي للمشاركة معكم في هذا المؤتمر المهم: (المؤتمر المسيحي العربي الأول:(المسار المسيحي في العالم العربي: إشكاليات اليوم واحتمالات الغد)، الذي أعتبره مؤتمرًا ليس خاصًا بالمسيحيين العرب فقط، ولكنه شراكة مع المسلمين عرب او غير عرب ، انطلاقاً من العيش المشترك بينهم ابتداءً من عروبتهم المشتركة وفخرًا بأخوتهم الدينية مسلمين ومسيحيين، التي أرسى قواعدها بالنسبة للمسلمين ،ما علَّمنا إياه قرآننا  الكريم حول نبينا عيسى و مريم العذراء، عليهما السلام وقيم العيش  بين المسلمين وغيرهم ، والتي أرسى قواعدها  نبينا محمد  وما نصَّت عليه العهدة النبوية لنصارى نجران ووثيقة المدينة التي عقدها رسولنا الأكرم، والعهدة  العُمرية، التي تُعدُّ دستورًا دينيًا واجتماعيًا بين خليفة المسلمين والبطريرك صفرونيوس  قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، . حيث ترسخ لدى مكوِّنات العالم العربي ، قيم الانتماء والعيش المشترك من خلال تقاليد عريقة حققت ضمانات عدم الإساءة لأي مكون من مكوناتها الأغنى بتنوعها الديني والمذهبي والعرقي حتى عصرنا الحاضر ،و الذي شهد بناء دولنا العربية في عصرها الحديث ،حيث لايخلوا وطن عربي من تنوع ديني وثقافي يفخر به الجميع خصوصا بين المسلمين والمسيحين العرب ،

وتوكيدًا على أهمية هذه العلاقة الأخوية والإنسانية مع المسيحيين عربًا وغيرهم من اتباع الاديان والثقافات الاخرى؛ بادرت المملكة العربية السعودية بالشراكة مع الفاتيكان و إسبانيا والنمسا بتأسيس مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات؛ بهدف تعزيز الحوار والتعارف والعيش المشترك، وترسيخ السلام والأمن بين الجميع، وفي طليعة ذلك إخواننا مسيحيي العرب، الذين برز منهم  قادة فكر وادب وثقافه، أثروا حياتنا الثقافية العربية بإبداعاتهم المتنوّعة.

فالحوار الذي نسعى اليه لا يدور إطلاقًا حول من هو المواطن أو غير المواطن؛ فجميع أبناء المجتمعات العربية والإسلامية من مسلمين ومسيحيين وغيرهم-مواطنون أصليون في أوطانهم التي شبوا وترعرعوا وعاشوا فيها منذ مئات القرون، ولا يمكن النقاش حول هذه الثوابت ولكننا ركّزنا في مبادراتنا وحواراتنا ومشاريعنا على ترسيخ العيش المشترك واحترام التنوع وقبول التعددية تحت مظلة المواطنة المشتركة.

ولذلك عقدنا مطلع العام الماضي 2018م لقاءً دوليًا مهمًا في فيينا، شارك فيه أعضاء الدول المؤسسة للمركز وأعضاء مجلس الإدارة من مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين وهندوس بالإضافة إلى أكثر من (300) شخصية من الأفراد والقيادات والمؤسسات الدينية وصانعي السياسات في العالم، ونتج عن ذلك اللقاء تأسيس أو منصة تجمع بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي بهدف الحوار والتعاون على ترسيخ العيش والمواطنة المشتركة.

وقد عملت المنصة من خلال أعضائها المسلمين والمسيحيين من القيادات الدينية المتنوعة في العالم العربي على إطلاق برامج محلية؛ بهدف مواجهة كل دعاوى العنف والتطرف والكراهية والإقصاء التي نفذها وتنفذها جماعات إرهابية تتلبّس لباس الدين، وهو منها براء، وقد شمل استهدافها الإجرامي الإخوة المسيحيين  والفئات الدينية والاثنية الاخرى و استباحت دماء المسلمين  وشركاؤهم في الأرض والحضارة بهدف تدمير المجتمعات  العربية والإسلامية ؛ دون مراعاة لقدسية النفس البشرية وما حملته لنا كتبنا المقدسة وتعاليمنا الدينية وسير الأنبياء والرسل والتاريخ الحافل بالعيش المشترك والأخوة الإنسانية.ومن المهم في هذا الخصوص عدم ربط اَي اعمال ارهابيه باي دين كان وعلى جميع القيادات والمؤسسات الدينية مضاعفة الجهود في مناهضة التطرّف والكراهية وعزل المجرمين وفضح وسائلهم وادواتهم وإطلاق مبادرات تعزيز العيش المشترك

وفي هذا الخصوص، أود الإشارة  إلى بعض مبادرات الأخيار في العالم العربي والإسلامي، واهمها: (وثيقة مكة المكرمة)  التي أنجزتها رابطة العالم الاسلامي بمشاركة (1200) شخصية إسلامية من (139) دولة حول العالم، في طليعتهم مفتو الدول، وممثلو (27) مكوِّنًا إسلاميًا من مختلف المذاهب والطوائف،  ،وصدرت برعاية كريمه من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وتُعد دستورًا تاريخيًا، شدّدت على أنه لا يتحدَّث باسم الأمة الإسلامية في أمرها الدينيّ إلا علماؤها الراسخون؛ لأن العمل الديني والإنساني المشترك الهادف لمصلحة الجميع؛ يلزم تشارك الجميع دون إقصاء أو عنصرية أو تمييز لأتباع دين أو عرق أو لون.

وأكّدت على أن التنوع الديني والثقافي في المجتمعات الإنسانية لا يُبرر الصراع والصدام، بل يستدعي إقامة شراكة حضارية إيجابية ، وتواصلاً فاعلاً يجعل من التنوع جسرًا للحوار، والتفاهم، والتعاون لمصلحة الجميع، ويحفِّز على التنافس في خدمة الإنسان وإسعاده، والبحث عن المشتركات الجامعة، واستثمارها في بناء دولة المواطنة الشاملة، المبنية على قيم العدل والحريات المشروعة، وتبادل الاحترام، ومحبة الخير للجميع، مع احترام تعدد الشرائع والمناهج، ورفض الربط بين الدين والممارسات السياسية الخاطئة لأي من المنتسبين إليه.

كما بادرت بعض الدول العربية والاسلامية  بمبادرات ووثائق تاريخيه منها وثيقة مراكش حول وثيقة المدينة المنورة التي اشرف عليها منتدى تعزيز السلم  ومبادرات مشتركه منها وثيقة الأخوة الإنسانية التي صدرت في ابوظبي  بين الفاتيكان والأزهر الشريف  ومبادرات متنوعه اخرى ،كما كان هناك مبادرات مسيحيه  منها( السنودس حول الشرق الاوسط عام ٢٠١٠)

وختامًا؛ أستأذنكم، أيها الأخوة والأخوات، في عرض موجز لما تأثرتُ به شخصيًا بعد اطلاعي على صفحة مهمة ومنسية من تاريخنا المشترك، لقصة من أروع قصص الحوار والتفاهم، التي شكَّلت منعطفًا مهمًا ورائعًا في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب؛ حيث أتيحت لمركزنا المشاركة في دعم  عرض فيلم تم إعداده من قبل شركة المتحدون الأمريكية، بعنوان:(السلطان والقديس)، الذي يؤرِّخ لواقعة شهيرة في تاريخ الحروب الصليبية وهي محاورات بين الملك الكامل محمد الأيوبي والقديس فرانسيس( فرنسيس الأسيزي) في معسكر جيش السلطان  الكامل أثناء الحملة الصليبية وحصار مدينة دمياط، أثناء الحملة الصليبية الخامسة منذ(800)عام وتحديدًا عام(1219م)؛ سعى من خلالها القديس (فرنسيس) في هذا الوقت إلى المساهمة في إنهاء الحروب والحملات الصليبية. وكان هذا أمل السلطان الكامل أيضًا؛ فعندما دخل عليه هذا الراهب الناسك، يحدّثه عن السلام ونهاية الحروب  والتعايش المشترك ؛ ورحب السلطان بما سمعه من دعوة للسلام وانهاء الحصار

وشكّل هذا اللقاء الذي جمعهما توكيدًا على القيمة التنويرية التي تخاطب الأديان كافةً، وعلى مضامين الحوار والتسامح، والحديث عن الانتماء للرسالة الإنسانية في حد ذاتها كونها رسالة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ودعوة صريحة؛ لمراجعة كل إنسان نفسه ليرى في الدين، رسائل حب وسَّلام، ورحمة، وعطاء ومحاولة فهم الآخر ومخاطبته عن علم وبينِّة؛ فقد أعطى كلا الطرفين لأنفسهما فرصة للتعلُّم من الآخر، وتوصلا إلى أرضية مشتركة، تعزّز رغبتهما في تحقيق السّلام؛ ونسج العلاقات الإنسانية السوية بعد فترة طويلة من الأحداث الأليمة وإذا اتيحت لنا الفرصة فانه يشرفنا عرض هذا الفيلم الذي نستطيع من خلال احداثه التعلم من قصص التاريخ  لبناء جسور من التفاهم بل عبور تلك الجسور لمواجهة كل ما يهدد عيشنا المشترك

فقد بعثت قصة هذا الفيلم، برسالة سلام وتآخي بين الشعوب، لا تخطئها عينٌ، تدعو إلى الحوار والوئام والسَّلام، وتحث على فهم أفضل، ومعرفة أكثر، وتعزيز التعددية والتسامح والتعايش مع الآخر، ونبذ العنف والتعصب والكراهية، وزيادة التفاهم بين الناس على اختلاف ثقافاتهم وأديانهم خصوصًا أتباع الأديان والثقافات الأخرى. 

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا استغرق الأمر أكثر من ثمانمائة عام لنعرف قيم الحوار بيننا أيها السيدات والساده لإخواننا مسيحيي المشرق والعالم العربي، صفحات بيضاء في وقوفهم مع إخوانهم المسلمين أثناء الحروب الصليبية، التي قتل فيها الآلاف من مسلمين ومسيحيين ويهود؛ واعتبرت مسيحيي المشرق والعرب، هراطقة بعدما؛ وجدتهم عربًا أقحاحًا: ثقافةً ولغةً وحضارةً؛ فلم تفرِّق، في الاضطهاد بينهم وبين المسلمين؛ ما دحض مزاعم حملاتها لتخليصهم من المسلمين؛ بعدما اكتشفوا أن الاثنين أهل واحد ونسيج مشترك؛ وما يؤكد في الوقت نفسه على أهمية تعميق العلاقة واحترامها كمواطنين متساويين في وجه الدعاوى التي تُطلق من هنا وهناك لحماية فئة دينيه ضد اخرى أو دعم فئة على حساب أخرى أن الحقيقة العالمية لتداخل البشر باختلاف أديانهم ومعتقداتهم وألوانهم تؤكد على حتمية العيش المشترك تحت مظلة المواطنة المشتركة فالمعلوم الان ان ثلث من يدينون بالإسلام يعيشون في مجتمعات غير اسلاميه لذلك فان المحافظة على الحقوق والواجبات تحت سلطة المواطنة المشتركة هو الغاية من حواراتنا ومبادراتنا المتنوعة التي تقع مسئوليتها بالكامل على جميع الفئات المتنوعة في الوطن الذي يعيشون فيه .

وفي هذا الخصوص، أود التوكيد على أن مركز الحوار العالمي، الذي يحظى برعاية ودعم المملكة العربية السعودية وإسبانيا والنمسا والفاتيكان سيعمل كل ما في وسعه لدعم المنصة العربية للحوار والتعاون بين المسلمين والمسيحيين وغيرهم في العالم العربي وسنعزز مشاريعنا والتي تستهدف تفعيل دور الدين والإعلام وصانعي السياسات لمناهضة خطاب الكراهية وتعزيز العيش المشترك واحترام التنوع وقبول التعددية وترسيخ المواطنة المشتركة عبر برامج ومبادرات نوعية تطبق على أرض الواقع بمشاركة أفراد وقيادات ومؤسسات إسلامية ومسيحية وغيرهم من إخواننا وأخواتنا الذين ينتمون لمجتمعاتنا العربية العظيمة.

أحييكم أيها السيدات والسادة وشكرًا على إتاحة الفرصة للمساهمة في تعميق وترسيخ هذه الأخوة بين المسلمين والمسيحيين في عالمنا العربي وبين البشر باختلاف أديانهم ومعتقداتهم وألوانهم .