منع مشروع ليلى كظاهرة دينية وسياسية مسيحية

منع مشروع ليلى كظاهرة دينية وسياسية مسيحية
الاثنين 5 أغسطس, 2019

أتلمس في هذا النص بعض الخيوط لفهم ظاهرة منع "مشروع ليلى" نتيجة المعارضة "المسيحية" له.

في قسم اول، استعرض العلاقة الملتبسة بين حرية التعبير، والخطاب الرسمي الديني المسيحي الذي برز في مواجهة "مشروع ليلى". وفي قسم ثان، اتناول ظاهرة المنع في ابعادها اللبنانية والثقافية والكنسية والعالمية.

الخطاب الديني الرسمي وحرية التعبير

ردّ الاب عبدو ابو كسم، رئيس اللجنة الكاثوليكية للاعلام، على المطالبين بحرية التعبير وبعدم منع حفلة "مشروع ليلى"، ان "لبنان هو بلد الحريات، لكن حريتنا تقف عند حدود الآخر وإحترامه وكرامته". وكان قد أكد في الوقت نفسه، ان "مشروع ليلى مش رح يمرق". وتراوحت الاعتراضات على "مشروع ليلى"، بين اتهامه بالاساءة الى المقدسات المسيحية، وبين انتقاد مثلية أعضاء الفرقة و"عبادتهم للشيطان".

مشكلة الخطاب الديني الرسمي الذي يتكلم عن "الحدود"، انه لا يعترف بالحدود بين الديني والمدني، لا في الزواج ولا في التعليم ولا في السياسة ولا في القضاء. فهو يقول جازما مثلا، ان "مشروع ليلى مش رح يمرق"، وكأن لا علاقة للدولة وللقضاء المدني بالموضوع.

والخطاب الديني الذي يتكلم عن "الآخر"، لا يقبل الا ان يحدد هو مواصفات هذا الآخر. فهو يلقّنك:

من انت ومن اين جئت والى اين انت ذاهب. من نكون "نحن" ومن هم "الآخرون". ما هو مسموح ان تفكر فيه وما هو غير مسموح. ما يمكن ان تقوله او لا تقوله. ما يمكن ان تفعله او لا تفعله. ما هو محترم وما هو غير محترم. ما يطال الكرامة وما لا يطالها. ما هو مقدس ويجب عدم المس به. ما هو غير مقدس ويمكن المس به. ما هو المقصود بما تقول.

وما هو غير مقصود بما تقول.

عندما يتهم الخطاب الديني الرسمي أحدهم بـ"عبادة الشيطان"، لا يسأل لماذا هذا الشخص ترك الله ولحق بالشيطان، وما هي مسؤولية الكنيسة عن ذلك. يتناسى هذا الخطاب بالطبع ان المسيح كان يطرد الشياطين من عقول الناس لتحريرهم وشفائهم، بدل ان يطارد الناس كالشياطين.

الاخطر عند الخطاب الديني الرسمي انه لا يعتبرك انت أيضا "آخر" عندما تعارضه، اي انه لا يُقر بأن حريته هو يجب ان تقف أيضا عند "حدودك وإحترامك وكرامتك". الا اذا سلّمت معه طبعا انه هو من يحدد حدودك ومعنى إحترامك وكرامتك.

يستولي الخطاب الديني الرسمي على المعنى ومن ثم يسمح لك بحرية التعبير.

لكنه لا يكتفي بذلك، فهو يصر على الاشراف مباشرة على تربيتك، وعلى قوانين احوالك الشخصية، وعلى قوانين بلدك بشكل عام، ويحرص كذلك على توفير البركة والمباركة لمن يحكمونك بالمال او بالسلاح او بالقانون.

رغم كل هذه الاحتياطات، الخطاب الديني لا يطمئن لك.

لسبب بسيط، هو انك كإنسان، ولدت حرا.

ولا وسيلة افضل لديه للجم حريتك الاصلية سوى تحسيسك بالذنب كلما استخدمتَها، مذكّرا إياك بأن حريتك الاصلية هذه هي مصدر خطيئتك الاصلية، وسبب طردك من الجنة لتتعذب على الارض.

وإذا لم يفلح الفكر الديني الرسمي في ضبط مشاعرك وفكرك وسلوكك من خلال جميع هذه الوسائل، يلجأ احيانا الى القضاء المدني لردعك، وخصوصاً اذا كان قد شارك هو في سن القوانين.

هذا بحد ذاته جيد، فالقضاء المدني هو الوحيد المخول في لبنان بت الاساءة إلى الكرامات او المقدسات، والقوانين اللبنانية كثيرة، لا بل اكثر من اللزوم في هذا المجال. ولا يحق للمراجع الرسمية الدينية ان تقرر هي مثلا وقف تنظيم حفل موسيقي او السماح به.

لكن الخطاب الرسمي الديني لا يبالي بمخالفة القانون كما بدا في الحملة على "مشروع ليلى"، ولا يبالي اذا استخدم اتباعه التهديد المباشر والعنف لحل مشاكلهم مع الآخر المختلف، كما فعلوا مع فرقة "مشروع ليلى".

الخطاب الديني الرسمي ليس فكرا يقبل المحاججة في الحوار او الاعلام او القضاء، بل هو "الحقيقة المطلقة" التي لا تحتمل حوارا او اجتهادا قانونيا.

الصراع الابدي بين الخطاب الديني الرسمي وحرية التعبير، هو أن الخطاب الديني ينطلق من "حقائق مطلقة"، في حين ان حرية التعبير هي بحد ذاتها الطريق الوحيد للتفتيش عن الحقائق، النسبية بالضرورة.

تلتقي السلطة السياسية، ممثلة برئيس الجمهورية، مع الخطاب الديني الرسمي في فهمها لحرية التعبير، حيث اعتبر رئيس الجمهورية منذ مدة، وفي حفل حيازته دكتوراه فخرية من جامعة اللويزة، ان "الحقيقة هي سقف الحرية" في معرض تبريره لقمع حرية التعبير ااذي تكرر كثيرا في عهده. اي ان على حرية التعبير ان تحترم "الحقيقة" ولا تخالفها، في حين انه في الواقع المعيش، لا يمكن الوصول الى "الحقيقة" الا من خلال حرية التعبير نفسها. الا اذا كنا نتكلم عن "الحقيقة" التي تفرضها السلطة السياسية، والتي تتناسب مع مصالحها.

لعل ذلك يفسر بعضا من اسباب مشاركة الاحزاب المسيحية في السلطة، في الحملة على فرقة "مشروع ليلى". حتى ان بعض الصحف اشارت الى ان الذي أطلق الحملة ضد "مشروع ليلى"، وبالاضافة الى كاهن، هو ناشط في "التيار الوطني الحر"، وأن هذا التيار يسعى للسيطرة على لجنة مهرجانات جبيل. وقد يكون ذلك من اسباب تقاعس السلطة السياسية عن تحمل مسؤولياتها في مجال معاقبة مطلقي التهديدات، وإتخاذ التدابير الامنية والقانونية لحماية الفرقة الموسيقية ومنظّمي مهرجانات جبيل والحضور الذي كان مفترضاً ان يشارك في الحفلة.

حتى لو لم يكن هذا التواطؤ الرسمي صحيحا، فإن التناغم الديني، السياسي، الشعبي المسيحي، كان واضحا ضد "مشروع ليلى". وهذا ما يجعل حالة الرفض ظاهرة اجتماعية يجب التوقف عندها.

ظاهرة رفض "المسيحيين" "مشروع ليلى"

البعض يرى في الظاهرة تعبيرا عن رد فعل المسيحيين، تجاه المخاطر التي تحيط بهم كأقلية خائفة على هويتها وعاداتها ومقدساتها، في لبنان وفي المنطقة، مع تراجع عددها في لبنان، وصعود التطرف الاسلامي وارتكابه مجازر وتهديدات في حقها في كل المنطقة.

في هذا الكلام شيء من الصحة، مع ضرورة إضافة ست ملاحظات على الاقل، تساعد في مجموعها على فهم أفضل للظاهرة.

اولا، هذه الاقلية المسيحية في لبنان ليست في مرحلة تقوقع او تراجع في النفوذ السياسي، فهي تتصرف عبر حزبها الاكثر تمثيلا، اي "التيار الوطني الحر"، والممثل بقوة في رئاسة الجمهورية وفي الحكومة، وفي مجلس النواب، وكأنها في حالة هجوم، فيه الكثير من الثأرية من الماضي. يتجلى ذلك من خلال عدم التوقف عن نبش مآسي هذا الماضي الذي ادى الى خسارة "المسيحيين" نفوذهم، وكذلك من خلال توسيع مروحة المواقع والمصالح الطائفية، او إعادة النظر في مواد الدستور التي تضعف من هذه المواقع والمصالح. يأتي في هذا الاطار طلب رئيس الجمهورية أخيراً من مجلس النواب تفسير المادة 95.

يترافق توسيع النفوذ "المسيحي" مع الدعم الكبير الذي يتلقاه العهد العوني، من الحزب الاكثر نفوذا في لبنان، اي "حزب الله".

لعل تذكير مهددي "مشروع ليلى" بالحروب الصليبية ووضع صور لمحاربيها على مواقع التواصل الاجتماعي، يعكس سيكولوجيا، الحالة الثأرية التي يعيشها هؤلاء. فالحروب الصليبية لم تكن، في وجهها الديني، الا غزوات ثأرية لاستعادة الحق المسيحي في اورشليم- القدس، التي سيطر عليها المسلمون.

ثانيا، إن رد الفعل "المسيحي" على "مشروع ليلى" ليس معزولا عن ممارسات أخرى شبيهة في إلاطار اللبناني.

فـ"حزب الله" منع منذ أكثر من سنتين إحتفالا طالبيا يذيع اغاني لفيروز، ومنع منذ أيام ولو بشكل غير مباشر، امسية شعرية استخدمت فيها الطبلة. على إعتبار ان أغاني فيروز، او الاغاني بشكل عام، و"الطبلة"، هما مخالفان للشرع.

نذكّر بأن دار الافتاء أجبرت نائبة سنّية على الاعتذار عن سلوك قامت به في كنيسة مسيحية، كما انها لجمت اندفاعة وزيرة الداخلية السنّية لطرح موضوع الزواج المدني للنقاش العام، وغيرها من الممارسات التي عجّت بها السنوات الماضية، والتي تشير جميعها الى تحكم المراجع الدينية الرسمية بقرارات ثقافية وإجتماعية.

ثالثا، إن الخطاب الديني المسيحي الرسمي ضد "مشروع ليلى"، يحل في سياق خطاب وممارسات مسيحية عنصرية، رسمية وشعبية، تطال النازحين السوريين، مما يجعل هذا الخطاب المسيحي بشكل عام، ومع استثناءات قليلة، خطابا متشددا وغير متسامح مع الآخر.

رابعا، يواكب كل هذه التطورات تنامي القلق والخوف عند اللبنانيين، من الاوضاع العامة السيئة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والامنية، التي قد تؤول في حدها الاقصى، الى انهيار مالي او انخراط في حرب دولية إقليمية، في ظل تقاعس المسؤولين عن القيام بمسؤولياتهم، لا بل مساهمتهم الفعلية في تفاقم الاوضاع.

لا يمكن فهم "مشروع ليلى" الا كحالة شبابية إعتراضية تحاول ان تفتش عن معنى لحياتها، من خلال الكلمة والموسيقى والسلوك الفردي، في ظل هذا الاضطراب الوطني العام.

ولعل رد الفعل الديني والسياسي الرسمي، على هذه المحاولة الشبابية "النقدية" للاوضاع العامة، هو تعبير صارخ عن ضيق صدرها بأي حالة إعتراضية، خاصة شبابية، على الوضع الذي تتحمل مسؤوليته السلطتان المتحالفتان، السياسية والدينية.

خامسا، النزعة العنصرية المسيحية تجاه النازحين السوريين، تتلاقى مع نزعات اليمين المتطرف العنصري وصعوده في الغرب المسيحي، وكرد فعل أيضا، على قضايا النزوح والهجرة.

ليس مستغربا ان الكثير من المسيحيين معجبون بماري لوبن، زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي، وبترامب، رمز العنصرية العالمية.

سادسا، من السهل جدا نقد الخطاب المسيحي الديني والسياسي والشعبي المعارض لـ"مشروع ليلى"، من خلال التذكير بتعاليم يسوع حول المحبة والتسامح واللاعنف ونصرة الفقراء والضعفاء واعتبار الانسان سيد الشريعة.

من المنطقي اتهام هذا الخطاب الديني نفسه، المدافع عن المقدسات، بالإساءة الى اهم المقدسات المسيحية، الا وهي تعاليم السيد المسيح.

لكن من المفيد لفت الانتباه أيضا، الى إن الكنيسة الكاثوليكية نفسها تشهد حراكا متصاعدا ولو ببطء حتى الآن، ضد مواقف البابا فرنسيس المنفتحة، ولا سيما تلك الداعية الى بناء الجسور وليس الجدران ردا على عنصرية ترامب ضد العمال المهاجرين المكسيكيين، او الرافضة لإدانة المثلية الجنسية، او المعتبرة ان الكنيسة تكون كنيسة الفقراء او لا تكون كنيسة يسوع، او المشككة برواية آدم وحواء او بوجود جهنم.

وقد صدر لاهوتيون ومفكرون بياناً، ارسلوه الى الكرادلة المسيحيين، يتهمون فيه البابا بإقتراف جريمة "البدعة" من خلال مخالفته الصريحة لسبعة معتقدات مسيحية. ويطالب البيان الكرادلة ببحث هذه المخالفات، لإقالة البابا في حال صحتها او في حال عدم تراجعه عنها. وهذا البيان مطروح للتوقيع من الجمهور المسيحي الكاثوليكي.

من بين هذه المخالفات مواقف تتعلق بالانفتاح على ممارسات جنسية خارج الزواج او خارج غرض الانجاب. لكن يبدو أن الأكثر إثارة للغضب بالنسبة إلى موقّعي البيان، هو موقف البابا الذي يعتبر فيه ان الله لا يسمح فقط بالتعدد الديني، المسيحي وغير المسيحي، بل يشجع عليه. حيث يرى الموقّعون، ان المسيح هو الطريق الوحيد الى الله بحسب المراجع الكنسية.

لا يمكن فصل هذه الانتقادات "اللاهوتية" للبابا عن نقمة الاكليروس عليه بسبب ممارساته الاصلاحية داخل الكنيسة، ولا فصلها عن نقمة الرأسمالية العالمية عليه، بسبب انتقاده النظام الرأسمالي وتضامنه الدائم مع الفقراء.

وكان قد لفت انتباهي في تصريح الكاهن الذي اطلق الحملة على "مشروع ليلى"، تلميحه الى تقاعس وتراخٍ في المواقف من المقدسات، حتى على مستوى رأس الكنيسة.

الدفاع عن "مشروع ليلى" ليس دفاعا عن موسيقى ابداعية، ولا عن نص جميل، ولا عن صوت رخيم. اهم ما في الدفاع عن "مشروع ليلى" انه يدافع عن الفن والغناء كوسيلة تعبير، بغض النظر عن مستوى الأداء، طالما هو شكل من أشكال حرية التعبير. وكلما كان مستوى الفن "هابطا" كما يدّعي البعض، او كلما كان الدفاع عنه يتم بغض النظر عن مستواه، كان هذا الدفاع دفاعا صافيا عن حرية التعبير.

الدفاع عن "مشروع ليلى" هو دفاع عما تبقى من دولة وقانون وحرية في لبنان.

الدفاع عن "مشروع ليلى" هو دفاع عن الإعتراض الشبابي على ما آلت اليه اوضاع الوطن، في ظل هجرة كثيفة للشباب.

الدفاع عن "مشروع ليلى" هو دفاع عما تبقى من إنسانية يسوع في قلوب المسيحيين. وهو دفاع عن البابا فرنسيس بما يمثل من محاولة تجديد في الفكر المسيحي والديني، وبالاستناد الى صلب تعاليم المسيح، المبنية على المحبة والانفتاح.

الدفاع عن "مشروع ليلى" هو رد جميل بسيط للأغنية، اية أغنية نحن نختارها عادة، لكي تؤاسينا في وحدتنا، او ترافقنا في أفراحنا وأحزاننا.

غسان صليبي  المصدر: "النهار"