يحصل في لبنان حَوَلٌ في اتجاهات متعاكسة - محمد حسين شمس الدين

يحصل في لبنان  حَوَلٌ في اتجاهات متعاكسة - محمد حسين شمس الدين
الأربعاء 10 يونيو, 2020

يحصل في لبنان

حَوَلٌ في اتجاهات متعاكسة

 

من مفاعيل "الكورونا" والفالج الاقتصادي في لبنان، فضلاً عن سقوط إدارته السياسية في امتحان الأهليّة أو الجدارة، أنّ الطوائف والمِلل والنِّحل والأحزاب أصيبت بحوَلٍ شديد، فدخلت في تنافس على التنصُّل من لبنانيتها، متوهِّمةً أنها بذلك تُنكي الطائفة الأخرى أو الحزب الآخر أو الزعيم الآخر، على قاعدة: "يُبولُ على إصبعه نِكايةً بالطهارة...!".

في الوقائع والمشاهدات أنّ الناطقين الحصريين باسم الطوائف اللبنانية أخذوا يتبارون في نعي هذا اللبنان، بمناسبة الذكرى المئوية لولادته "السعيدة" في نظر بعضهم، و"المشؤومة" في نظر بعضهم الآخر.. ورغم اختلاف هاتين النظرتين المبدئيتين، إلا أن الفريقين اتّفقا الآن وهنا على أن تجربة هذا المخلوق لم تكن موفّقة، فاقتضى البناءُ على الشيء مقتضاه، أي واجبُ النعي والدفن!..

من هذه الوقائع، أطربتنا نغمتان رئيستان.. والطربُ، في أصل المعنى، لا يذهب حصرياً في اتّجاه السرور والفرح، كما يظنُّ أكثرنا، بل يذهب أيضاً وبالمقدار نفسه في اتجاه الحزن والغمّ. فقد جاء في معاجم اللغة العربية: الطّربُ خِفَّةٌ تعتري المرءَ من فرحٍ أو حزنٍ شديد... ألا ترى أنّ الأم ترقصُ في عُرس ولدها فرحاً، مثلما ترقصُ في مأتمه هَلَعاً؟!.. إذن فإنّ ما سنذكره من نغمات هو للتعبير عن حزننا الشديد والساخر حيالها.. وما السخريةُ هنا إلا للتخفيف من وطأة الحزن!..

في الواقعة الأولى، أن كبير النّاعين وأصرَحَهم قولاً كان مفتياً ممتازاً، أسند ظهره إلى مجلسٍ مذهبيّ أعلى، وإلى ثنائيةٍ حزبية قابضةٍ على أنفاس جماعتها، ومُلَوّعةٍ الآخرين بأيّاراتها المجيدة، فاستحقّت هذه الثنائية الحصرية أن تكون نموذجاً يُحتذى للقبائل اللبنانية، على تلك القاعدة السيكو- سوسيولوجية التي حكى عنها ابن خلدون: تقليد المغلوب للغالب.. فكيف إذا كان هذا الغالب على فائضِ قوةٍ دوَّخ به "بلادَ العُرْبِ أوطاني.. من الشامِ لبغدانِ.. ومن نَجْدٍ إلى يَمَنِ.. إلى مصرَ فتطوانِ"؟!..

كبيرُهم هذا قالها أخيراً وبالفم الملآن، بمناسبة عيد فطره السعيد: لبنانُكم الكبير مبتدأً وخبراً، وميثاقُ عيشُكم المشترك، ودُستورُكم الذي يتفرّدُ رؤساؤكُم بالقسم عليه، وطائفُكم، ونظامُكم الحرّ، وعَرَبيّتُكم التي كتبتموها في مقدّمة الدستور، وعالميّتُكم التي تباهَيْتُم بها منذ اقتحم أجدادُكم البحار ومنذ شارك بعضُ أعيانكم في كتابة ميثاق الأمم.. كلُّ ذلك فاسدٌ وساقطٌ ومَرْذول!.. وكاد صاحبُنا يًنشدُ مع المتنبّي: ".. وكلُّ ما خلق اللهُ وما لم يخلقِ.. محتَقَرٌ في هِمّتي كشعرةٍ في َمفْرقي!".. ثم إنه وبخفّةٍ طربيّة، دعا اللبنانيين إلى البحث عن "عقدٍ وطنيّ جديد، بشروط الأقوى"، باعتبار أن رأيَ الأقوى هو الأفضل. La raison du plus fort est toujours la meilleure!

كلام هذا الناطق الممتاز صدم الجميع، ليس لأنه غريبٌ عمّا في الدَّواخل وخَلفَ الأبواب المغلَقة، بل لأنّ الحِنكةَ الطائفية علّمتنا أنه "ليس كلُّ ما يُعلم يُقال"، أو لأنّ الأوضاع في المنطقة ما تزال تنام على شيء وتصحو على شيء آخر.. فلم يَحِنْ بعدُ الوقتُ المناسب للمجاهرة بهذا الكلام، يا مولانا!..

مشكلةُ صاحبنا أنه "بقَّ البحصة"- فيما هو لا ينطق عادةً عن الهوَى، وإنما بوحيٍ يُوحَى- فأحرجَ كلّ من يشدّ على يده من حلفاء وأشباه حلفاء، فضلاً عن أهله، فكان والحالة هذه مثل طفل الحكاية الذي صرخ وسطَ الجموع المنبهرة بثياب الملك: "... ولكنّ الملك يسير عارياً!!".

أوّلً المنبّهين إلى هذه "الفَلْتة" كان ناظر الشيعية السياسية وأستاذها النّبيه، الذي سرّب انزعاجَه بواسطة أحد نواب كتلته المتخصّص بتدوير الزوايا وتربيع المثلثات. كذلك تمّ الإيعاز إلى نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى بأن يتفضّل بإلقاء خطبةٍ مطوّلة عصماء، على موجةٍ أخرى هي موجةُ الوفاق اللبناني، بهدف صَرْف الانتباه عن كلام المفتي و"ضبضبته"... وقد التقط التَّسريبَة والإيعاز الحليف البرتقالي لقائد الشيعة ومُرشدها الأعلى- وهو مقامٌ أعزُّ من النظارة والأستاذيّة- فأوعز هذا الحليفُ بدوره إلى أحد نوابه- المتخصّص أيضاً بالتدوير والتربيع والّتثليث- فصرَّح على الفور بأن "كلام المفتي لا يعبّر عن رأي طائفته الكريمة، بقيادتها الثنائية العظيمة"، أو كما قال..

وقد رأى المراقبون أن مبادرة الحليف إلى المساهمة في التهدئة وامتصاص الصدمة- ولو بكلامٍ كان ينبغي صُدورُه عن الأصيل الصامت مثل ابي الهول- إنما اقتضتها عنعناتٌ وغرغراتٌ وتأفُّفاتٌ مسموعة في الجانب البرتقالي، بسبب استنكاف أبي الهول عن قول كلمته النهائية بخصوص الرئيس العتيد، الذي قدّم حتى الآن أوراقَ اعتماده إلى الباب العالي، وفوقَ المطلوب، من دون أن يسمع ما يطمئنُّ إليه قلبُه... لا بل هناك غزلٌ من فوق السطوح مع بعض خصومه المسترئسين!!..

الواقعة الثانية، وبالتزامن والمناطحة مع الأولى، هي نغمة الفدرالية القديمة المتجدّدة.. وقد قيل أن فيلسوف الفدرالية الأخير في لبنان حظي بمقابلةٍ مطوّلة وأنيسة مع الباب العالي، مقسِّمِ أرزاق الطوائف اللبنانية ومقرِّر مصائرها، فبسط أمامه خرائطه وتلقّى بعض الملاحظات، من دون أن تُفسد تلك الملاحظات في الودِّ قضية!..

قد يكون هذا الخبر تسريبةً من "عيون" بعض الصحف وألسنتها النمّامة، أو من القيل والقال الذي تعتاش عليه "مواقع التّفاصُل الاجتماعي"، فلا يُعَوَّلُ عليه كثيراً.. أي قد يُعوَّلُ عليه قليلاً.. ما يُعوَّلُ عليه هو دعوةُ وزيرٍ سابق وناشط دائم في التواصل القوّاتي وحكواتي من طراز "ابو ملحم" في السبعينيات- دعوتُه جهاراً نهاراً إلى فدرالية جغرافية في لبنان!.. ولما كانت فكرة الفدرالية عملةً نفسانية رائجة في الوسط المسيحي- بحسب هذا الشاب الطموح- فقد عَتِبَ على أحد أصدقائه المخالفين لرأيه، لأنه لم يردّ عليه ويهاجمه علناً، لا تلفزيونياً ولا فيسبوكياً!.. سأل الصديق: ولما العتب؟! قال: لأنك إذا هاجمتني تزيد من شعبيَّتي وأهليَّتي في بيئتي.. وأنت لئيمٌ لم تفعلها!..

بهذه الخفَّةَ أيضاً تتمُّ مغازلة الفدرالية.. وهي خفّةٌ تستند إلى مراكمات خطاب اليأس والتيئيس في الوسط المسيحي، منذ الطائف حتى الآن، بحيث أدخِل في روع الجمهور أّنّ الفدرالية هي خشبةُ خلاص، طالما "لم يعد ممكناً العيش مع المسلمين في ظلّ أرجحيّتهم التي كرّستها مؤامرة الطائف"... وقد يتشاطر بعضُ المتكلّمين بأن يخلط بين الفدرالية واللامركزية الإدارية الموسّعة، أو بين هذه واللامركزية المالية، أو بين حنّا وحنَيْن وحسن وحسين، فتكون النتيجة اختلاط الأمور في ذهن شعب لبنان العظيم!... هكذا علّمنا فسادُ حياتنا السياسية أن الأمور تُدار بالشطارات والمهارات الكلامية!..

وقد يكون التحايُل بأسلوبٍ آخر.. وهو إطعامُ المسيحيين جوزاً فارغاً، بجعلهم يعيشون على حلم الاسترداد «reconquista»، أي استرداد امتيازات الطائفة الممتازة، كما كتبها المندوب السامي في الدستور الأول... ولما كان مثل هذا الحلم مستحيلاً، فإنه يبقى مفتوحاً لجهة واحدة: الفدرالية أو ما يعادلها.. أي العودة إلى شعار "كفرشيما- المدفون"!...

وإذا كان مفتينا الممتاز قد صدر في كلامه عن ميغالومانيا (عُظام) القوّة وانتفاخ الذات، فإنّ أصحابنا من دعاة الفدرالية إنما يَصْدرون عن نظرةٍ تبْخيسيَّة إلى الذات، ونزعةٍ انسحابية من التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ!..

آخرُ مشاهداتنا عن الفدرالية أنّ "البرنامج الأول على MTV" استضاف مواجهةً حامية، أرادها صداميّةً تكسيرية، بين نسر الفدرالية الأخير وأحد نُسور الميغالومانيا الشيعية، برتبة عميد متقاعد وطَلَّةٍ "من فوق الكتف" يُقام لها ويُقعَد!... المهمّ أنه، وبعد ساعة من الحوار في الاتجاهات المتعاكسة، وبلغتين تحتاجان إلى ترجمان، اختلف الجانبان حول كلّ شيء، واتّفقا على دفن لبنان الكبير.. ويا دار ما دخلك شرّ!..

على أيّ حال، فإنّ معظم الراطنين بالفدرالية في هذه الأيام، على كثرتهم، ليسوا مرجعيات في طوائفهم الكريمة.. ولكن مرجعيّاتهم السياسية السامية لم تنطق حتى الآن سوى بعبارةٍ موارِبة: "مُشْ وقتها.. يا شباب!".. ولعلّ هذه المرجعيات، على غرار أذكياء الشيعية السياسية، تنتظر حسم الأمور في المنطقة للتكيّف مع النتائج.. وهذه هي حال كل الطوائف اللبنانية، الواقعة في "حيص- بيص" من أمرها، أو في انعدام القدرة على تحديد موقعها في الزمان والمكان والاتّجاهات!.. في الأثناء، وحتى لا يُتَّهم بعض القادة السياسيين المرجعيين بالخنوع والتقصير في ردّ الصاع صاعين، لا بأسَ في أن يعقد أحدُ المريدين مؤتمراً صحفياً للردّ على المفتي الشيعي بلهجة صقورية حاسمة: "لن نغير حرفاً واحداً في دستورنا القائم، إلا بعد أن يسلّم سماحة المفتي سلاحه.. هكذا قولاً واحداً!".. ولعلّ المفتي قد انشرح صدره لهذا الردّ، ليس فقط لأنه يعزّز مكانته في بيئته ويزيد من قناعة هذه البيئة بأن مصيرها رهنُ بمصير سلاحها، بل أيضاً لأنّ الردّ انطوى على إمكانية "المقايضة" بين السلاح والمصير اللبناني برمّته.. فتأمّل!..

ما بين هاتين الواقعتين أو النغمتين (الانكفائية الفدرالية، والغضنفريّة المُحدِّقة في زندها وعضلاتها)، ثمة نغماتٌ أخرى رديفة- أي أنها تزيد الطين بَلّة- شَنَّفَت آذاننا وأطربتنا في الآونة الأخيرة، فأكملت "النَّقل بالزعرور".

أبرزُها نغمة "المشرقية"، التي عقدت مؤتمرها الأول برعاية رئيس الجمهورية وإدارة "رئيس الظلّ"، قبيل "الكورونا" بأيام معدودات... جاء هذا المؤتمر ردّاً فصيحاً على "عربية" لبنان، وعيَّن رئيس الظلّ أميناً عاماً له، باقتراحٍ من جانب المتحدّث باسم "الأرثوذكسية السياسية" في لبنان (كذا في محضر الاجتماع المنشور!).. وهذا القِران لم يتمّ على "سرّ الزواج المقدّس" لدى المسيحيين، بل على "سرّ المشرقية الجديدة".. ألم يكنْ قانونُ الانتخابات الأخير، والمعروف بالأرثوذكسي، إحدى بشارات هذا القِران، وفاتحةَ انكفاء الطوائف والمِلل والنِّحل اللبنانية، بطريقةٍ "قانونية"، إلى مربّعاتها الصغيرة، بحيث أصبحت كلّ عنزة "معلّقةً بكرعوبها"!..

ومن هذه النغمات: "لا نقبل التّعدّي على حقّنا وحصّتنا!". هذه النغمة سمعناها بعزفٍ منفرد على القانون، من جانب الأرثوذكسية والسنّية: الأولى بخصوص إجحافٍ بحقّها في التعيينات أو المناقلات الإدارية، والثانية بخصوص التجاوز على مكانتها في النظام السياسي بحسب دستور الطائف.. وذلك في ظلّ تَغَوُّل اللون الواحد في الحكم والحكومة..

ثمة مفارقةٌ في هذه الواقعة- المشهديّة: فكلُّ واحدةٍ من الطائفتين الكريمتين تعرِّفُ نفسها بأنها "ليست طائفة بالمصطلح اللبناني المتداول، ولا تطوف مع الطوائف".. كذلك تتباهى كلُّ واحدة- وليس عن غير حقّ- بأنها الأكثر ابتعاداً عن فكرة الأقلّوية والأكثر قرباً من الحالة المدينيّة. والحال أنهما بدتا في الآونة الأخيرة متراجعتين إلى حيثية أقلّوية وغير مدينية، بدليل أن المطالبات المشار إليها قد صدرت عن أعلى المرجعيات الزمنية والدينية فيهما!.. ونركّز على الشعور الأقلّوي وغير المديني، لأنّ مثلَ هذا الشعور مسجّلٌ في العُرف أو الانطباع اللبناني لأهل الأرياف من الموارنة والشيعة... وخلاصةُ الملاحظة، بما يتجاوز السياسة السياسويّة وحسابات "الكشَّةَ" أنّ القابضين على ميكانيزمات النظام، منذ عشر سنوات على الأقلّ مزوّدين بذخيرة وصايتين متعاقبتين، قد قطعوا شوطاً بعيداً في ترييف العقل المديني، بعدما حوّلوا الريف إلى احتياطي غضبي يُستدعى عند الحاجة!..

ومن النغمات الرديفة، الدعوةُ إلى علمانية كاملة صافية، أصوليّةٍ ومنقذة، بقيادة "طائفة المجتمع المدني"، نابذةً خلف ظهرها تخريفات الأهل!.. والحال أن هذه الطائفة لم توجد في أي وقت من الأوقات إلا افتراضياً، يشجّعها على التمادي في افتراضيتها طُغيان العالم الافتراضي في هذه الأيام. مشكلتها، أو مشكلتنا معها، أنّ خيالها يزيّن لها وجودَ مجتمعين متجاورين في بلدٍ واحد: مجتمع أهلي ينطوي على كل أنواع الفساد والتخلّف والرجعيّة، ومجتمع مدني بيوريتاني من جنس الملائكة.. هذا فيما كلُّ فرد لبنان يُقيم في داخله شخصان: واحدٌ أهلي وآخر مدني.. فإذا أردتَ أن تُعيّن حدودَ المجتمعين، عليك أن تقسم كلّ فردٍ إلى قسمين، فتجمع الأشباه والنظائر في سلّة واحدة لتحصل على المراد الافتراضي.. ألا ترى أنك إذا حككتَ جلد مُعظم عُتاة العلمانية يتكشَّف جلدهم عن أهلويّةٍ متعصّبة لهذه الخصوصية أو تلك؟!.. لذا نرجّح القول بأن في لبنان، كما في سائر البلدان، مجتمعاً واحداً، ينطوي على حساسيات متنوعة، من بينها، الحساسيّة المدنيّة (هويّة مركّبة على مستوى الجماعة والفرد).. والواقع أن عدم رؤية هذا التركيب، أو تجاهله، يُفضي إلى تكوين "هويات قاتلة" بحسب عبارة أمين معلوف، من بينها "الهوية العلمانية المؤدلَجَة- العلمانويَّة"، بحسب عبارة البابا بنديكتوس السادس عشر.. أو أنه يُفضي- على الأقلّ- إلى "هويّات فائضة ومواطَنة منقوصة" بحسب وجيه كوثراني...

هذا الَحوَل في الاتّجاهات المتعاكسة على سبيل النكاية: من الدعوة إلى عقد وطني جديد على أساس شِرْعة الأقوى (أي شِرْعة الغابة)، إلى الفدرالية على قياس الخائفين الانسحابيين، إلى المشرقية على أوهام التنصُّليين من عربيتهم، إلى أصوليّةٍ علمانويّة على مزاج الافتراضيين، إلى رغبةٍ جامحة في تقديم الاقتصاد الحرّ ونظامه المصرفي كبشَ فداء للتغطية على عجز الإدارة السياسية الحالية وانتقاماً من حقبةٍ سياسية سابقة، فضلاً عن "مقاومة العقوبات الاميركية"، إلى عروض المقايضة بين سلاح المقاومة والمعنى اللبناني برُمّته، إلى قانونِ عفوٍ لا يمرّ إلا على أساس "المثالثة" إياها.. إلى مطالبات جِهَويّة ومناطقية وعائلية وشخصية.. نقول أن هذا الحَوَل في اتجاهاتٍ متعاكسة انعكس بلبلةً في الشارع اللبناني الذي بات يتحدّث بلغات أهل بابل، والذي يتحفّزُ فُرسانُه من "ثوار 17 تشرين" لهبّةٍ ثانية ما إنْ تتراجع هجمةُ كورونا، فيما لا يجد وزيرا الصحة والداخلية وسيلةً لتفادي الأمر إلا بالحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي، بالإضافة إلى "التلاعُب بأرقام الإصابات صعوداً وهبوطاً"، بحسب تصريحات الشارع.. ومن حُسن حظّ الوزيرين المذكورين- أعني قيادتهما السياسية- أنّ لكلّ اتجاهٍ من الاتجاهات المتعاكسة في البلاد منصّةً في هذا الشارع، ترفع شعار: "كلُّنْ.. يعني كلُّنْ.. إلا أنا"...

اختُتم هذا الفصل من المشهد اللبناني، مساء السبت 6/6/2020، على بروفة ناجحة لفتنة أهلية، ما زالت أصداؤها تتردّد حتى كتابة هذه السطور، بين الضاحية الجنوبية والطريق الجديدة، وبين الشياح وعين الرمانة، وبين هذه وتلك من المناطق المعلّبة!..

خُلاصةُ القول أنّ "مَرْتا" اللبنانية تفعل أشياء كثيرة وتقول كلّ شيء، بينما المطلوب واحد: تطبيق دستور الطائف، الذي مضى عليه حتى الآن ثلاثة عقود ولم يطبَّق مرّةً واحدة، بفضل وصايتين متعاقبتين، وبفضل "مَرْتا" اللبنانية ذات الحركة والثرثرة والبصبصة في كلّ الاتجاهات.. هذا الدستور يحصّن العيش اللبناني بثلاث شرعيات: شرعية الوفاق اللبناني بعد جنون الحرب، والشرعية العربية التي لا متنفَّسَ للبنان خارجَها، والشرعية الدولية التي تحمي لبنان من أن يكون حشيشاً على دَرْب الفِيَلة!... بعيداً عن ذلك لا قمحَ تأكلين يا "حَنَّة"، ولا قمحَ تأكلين يا "أم حسين"!...

محمد حسين شمس الدين