ماتت السياسة في لبنان موتاً شنيعاً. موتها أفضت إليه القبضات العصبية التي تُرفع من أجل تحيّة هذا الزعيم وذاك. حصل ذلك من أقصى الجنوب حتى آخر الشمال. وحصل أيضاً من "فقش الموج إلى مرمى التلج".
الموت السياسي صار عميماً. كان لذلك أن يكون مقبولاً لو أنّه انحصر بزمن الانهيار. التبرير ساعتذاك سيكون أنّ الهمّ اليوميّ هو تدبير العيش كيفما اتّفق. لكن لو صحّ ذلك لكان يجب أن يكون مقروناً بانفضاض اللبنانيين جميعاً عن عصبيّاتهم.
هذا لم يحدث. ففي عزّ انهيار الدولة تصرّفوا على الضدّ من السياسية والاجتماع. حال اللبنانيين ليست مستجدّة عليهم، فقد قبلوا موت السياسة منذ زمن بعيد. ما عادت نظم الدولة وكيفيّة اشتغال السياسة همّاً من همومهم.
الحزب ـ باسيل
هكذا مثلاً تزايدت حركة الاحتراب السياسي بين الحزب والنائب جبران باسيل حول انتخاب سليمان فرنجية من عدمه. الحركة التي وتّرت البلد تصاعديّاً منذ التوقيت الصيفي كان يستحيل ربطها بالسياسة وبالمهل الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية وملء الشغور الرئاسي.
الشيء نفسه تصحّ قراءته بالاستدلال المعاكس في معاودة الاتّصال بين الطرفين و"إشاعة" جوّ من الوجهة نحو الاتّفاق على انتخاب رئيس تيّار المردة بعد المقايضة بين غريزتين: الأولى مسيحية مثّلها جبران. والثانية عبّر عنها الحزب.
قد يقول قائل إنّه ليس في الأمر غرابة ما بقي لبنان بلداً ولم يصبح دولة. كما أنّ اللبنانيين ارتضوا التسويات الطائفية والجماعية على حساب المواطنة والموادّ الدستورية والقانونية. وفي هذا الكثير من الصحّة.
لكنّ ما هو خارج السويّة السياسية أنّ الطرفين أنتجهما في الأصل التعطيل السياسي، كما غيرهما من القوى. لقد دخلوا السياسة من العدم السياسي. الحزب جاء من هدير الجماعة. العونيون أيضاً. كلاهما استحوذ على رقع أهلية. نجاحهما كما غيرهما سببه انقطاع لبنان عن السياسية والتوجّه نحو الحرب.
المصالحة المُعلّقة في عنق الزجاجة
أصل المصالحة بدأ بعدما صال وجال جبران محاولاً إيصال من يواليه إلى بعبدا، لكنّه وصل إلى الحائط المسدود، على الرغم من نصائح زملاء كثر له في الكتلة بعدم التهوّر في رفع الأسقف السياسية. في الأثناء لم يعِره الحزب أيّ اهتمام، ذلك أنّ الأخير يعرف عن حقّ مَن يفاوض مَن على انتخاب رئيس للجمهورية، وكيف كان هذا المنصب على الدوام موسوماً بطوابع دولية متّصلة بأرجحيّات القوى في المنطقة.
هذا كان منذ بشارة الخوري وصولاً إلى الزمنين الإسرائيلي والسوري، ثمّ بعد عام 2005 واغتيال الرئيس رفيق الحريري.
عندها استدار رئيس التيار الوطني الحرّ ورفع شعارات تعيد الأرجحيّة لكتلته البرلمانية إثر الفشل المريع مع انتهاء عهد ميشال عون. فكان أن اتّخذ من مطلبَيْ "اللامركزية الإدارية" و"الصندوق السيادي الائتماني" شرطين لمجالسة الحزب والتفاوض معه.
في البدء طلب الحزب "إشارة ولو بمعدّل صفر إلى الميل نحو انتخاب فرنجية"، فكان أن طلب إعفاءه من الإحراج "والعودة إلى قاعدة الحزب أن يكون الحوار بلا شروط". لكن عملياً كان جبران قد استعاد ملاءته السياسية والشعبية وبدا كمن يرفع أمام جماهيره كأس بطولة نظّمها ورعاها وفاز بها وحده من دون أن يشاركه فيها أحد. وكان في ذلك يقول للمسيحيين إنّ المطالب التاريخية تحقّقت ولا يضيرنا كفريق أن نربح الكأس ونبيع أحد اللاعبين.
تغييب السياسة
تبدو آثار تغييب السياسة واضحة بين الطرفين اللذين وصلا إلى عنق زجاجة الاتفاق، وهو ما عبّر عنه النائب غسان عطالله في تصريحه إلى الزميلة "لوريان لوجور" بقوله: "متى اتّفقنا مع الحزب فسنقترع لفرنجية". وقال زميله في التكتّل العونيّ أسعد أبو ضرغام ما يشبه ذلك: "إنّنا دخلنا مرحلة مهمّة جدّاً من الحوار مع الحزب... كان موقف الحزب جيّداً لجهة رفضه تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان في ظلّ غياب رئيس الجمهورية، وهذا يبيّن تمسّكه بالشراكة الوطنية".
لا يُعاب على أيّة قوة سياسية تحقيق مصالحها وأهدافها. لكنّ ما يحصل بين الطرفين هو تقديم مصالح من طبيعة فئوية على حساب البلد. إذ لا دستور ولا قانون يحكم مصالح البلد العليا في مواجهة دويلات مُعلنة وأخرى غير مُعلنة تتوارى وراء قناع.
تقدُّم المفاوضات
حتى الساعة تتقدّم المفاوضات بشكل حثيث بين الطرفين على قاعدة دعم الحزب للعونيين في مشروع "اللامركزية الإدارية" و"الصندوق السيادي الائتماني" في البرلمان. والمشروعان قيد التمحيص والتدقيق من جهة الحزب.
"أساس" الذي تسنّى له الاطّلاع على مشروع اللامركزية لم يجد فيه من حيث المبدأ ما يثير الغرائز، إذ إنّه يتوزّع على أساس الأقضية، وسيكون هناك تسعة أقضية تتمتّع بشبه نقاء بيولوجي مسيحي، مقابل سبعة عشر من أصل ستّة وعشرين للمسلمين، من بينها ما هو مختلط مع أقليّة مسيحية.
في مشروع "اللامركزية" هذا معايير علمية وجادّة تتعلّق بالتنمية ومعدّلات النموّ تتقدّم على معيار قدرة الجباية وحجمها. وتتضمّن معايير دولية لكيفية تحويل الأموال إلى الدولة المركزية. وهو ينهض على أساس القضم من السلطة المركزية لصالح السلطات المحلّية. كما أنّ انتخابات مجلس القضاء تراعي الحجم الديمغرافي في كلّ قضاء.
لم يتمّ النقاش في الصندوق السيادي الائتماني بعد والخوض في كلّ تفاصيله الموسّعة، لكنّه يحمل طمأنة للّبنانيين جميعاً إلى بقاء الفكرة اللبنانية ومعنى العيش المشترك، لكن في الأحوال كلّها يحول دون تعطّل الدولة حتى تُعقد التوافقات الطائفية، إذ يمكن لكلّ قضاء أن يواصل الإنماء، ويسمح بمحاسبة شعبية وسياسية لمجلس القضاء، ويحيل النواب إلى القيام بمهامّهم الأصلية، أي متابعة التشريع حصراً، لا الانغماس في العلاقات العامّة وتعقيب المعاملات.
هذه القراءة عمومية وقد يكون فيها شيء من التعجّل السياسي وتحتاج إلى وقت ورويّة أرفع وأدقّ لإبداء الرأي.
الأفضل الممكن
كان الأفضل ممكناً لو أنّ التفاهمات والتحالفات بين القوى تنهض على معايير سياسية. لكن مُجدّداً يبدو أنّ هذا الأفضل ما يزال يقع في باب المستحيل ما دامت السياسة قد ماتت وحلّت محلّها قدرة الأطراف على التهديد بتفجير البلد حيناً بقواها الذاتية، وأحياناً عبر ربطه أكثر فأكثر بتوتّرات الإقليم.
*عن صفحة أساس-ميديا