يتشابه وضع حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة كثيراً مع بطل رواية "المحاكمة" للكاتب التشيكي فرانز كافكا جوزف ك. الرواية تتركز في حبكتها على القاء الضوء على الظلم والعبثية والعدمية في حياة الانسان. فالرواية في مضمونها تتناول قصة شخص يدعى جورزيف ك، وتبدأ باستيقاظ بطلها في يوم ليجد بالباب رجلين يخبرانه بأنه مطلوب للمحاكمة، ومن دون أن يوضحا أية قضية متهم بها وما سبب طلبه للمثول أمام القضاء. وعلى مِثل ومِثَال بطل الرواية نزل برياض سلامة الذي فجأة صار مُطالباً بأجوية على سياقات سياسية أفضت إلى زعزعة اقتصادية مصرفية.
هكذا صار رياض سلامة مسؤولاً، ومن دون سابق إنذار، عن كل مآلات الدولة اللبنانية التي لم تكن يوماً "دولةً" على ما تحمله هذه المفردة من حيثية ودلالات، حيناً بسبب الهيمنة السورية، وأحياناً بسبب خليفتها الهيمنة الإيرانية عبر سلاح حزب الله والتي أحكمت القبضة على مفاصل الجمهورية اللبنانية وخرجت عن وعلى الشرعيتين العربية والدولية إلى الحد الذي أفضى بلبنان إلى هاويةٍ صار من المتعذر انتشاله منها من دون معجزة إلهية وهذه رهن إرادة السماء، أو بتدخل من المجتمع الدولي عبر صندوق النقد الدولي.
في رواية كافكا فان جوزف ك يخضع لاستجواب غير مفهوم على الاطلاق، ومع تطور الأحداث وتغيرها وفشل البطل في معرفة جريمته يبدأ في الدفاع عن نفسه بشتى الطرق هو ومحاميه؛ لكن ما يواجهانه من صعوبات يتمثل في عدم معرفة ما هي جريمته، فكيف لفرد أن يدافع عن براءته وحياته في حين يجهل ما ارتكبه في الحياة.
لكن في حالة رياض سلامة نزل به الأسوأ. فهو لم يُسأل عن أمر ما . ولم يُستفهم منه عن شيء محدد بذاته. بل فجأة استدارت التظاهرات من حيث يجب أن تكون وانتقلت لتهتف ضد الرجل بأبشع النعوت. أكثر من ذلك، فقد بُحت الحناجر وهي تطلق أحكاماً ذات يمين وذات يسار ضد الرجل الذي قد يكون مسؤولاً إلى هذا الحد أو ذاك . لكن حجم المسؤولية لا يتحدد إلا من خلال مساءلة، وليس من خلال كليشيهات شعبوية يختلط فيها الهذر مع الصراخ والعويل.
الفرق الوحيد بين رياض سلامة وجوزف ك بطل الرواية، هو أن الأول ما يزال يقوم بواجباته ودوره على أكمل وجه للحفاظ على الوضع النقدي وودائع المودعين انطلاقاً من حرصه على خشبة الخلاص الوحيدة التي لا تزال في متناول اللبنانيين. أما الثاني، أي بطل الرواية، ومع عدم معرفة جريمته لا سيما مع انسحاب المحامي وعدم تمكنه من إنقاذ موكله الذي بقي وحيداً أمام منظومة قضائية طاغية لا تخبره لماذا تحاكمه وإلى متى يستمر الوضع على هذه الحال؛ حتى تتسلل روح الإحباط والاكتئاب وتجتاحه فييأس، ليُساق بعدها إلى محاكمة لا يعرف ما سببها.
في حالة رياض سلامة فان شيئاً من التماثل يحضر بقوة لجهة الظلم والعبثية والعدمية. فجأة صار مسؤولاً عن منظومة سياسية سخرت الدولة للنهب والتوظيف السياسي. وكأنه هو من استدعى الحروب الإقليمية وخاصم المحيط والعمق العربيين للبنان. أو أنه هو من تاجر بالبشر والمخدرات عبر أميركا اللاتينية وحاول استخدام النظام المصرفي اللبناني لتبييض وغسيل الأموال ليتحدى الشرعية الدولية. وفجأة أيضاً أصبح راعياً لأذرع أمنية استوطنت لبنان لتنطلق منه تخريبا في أمن واستقرار الدول العربية.
حسناً، فلنصدق أن رياض سلامة هو المسؤول عن كبائر السلطة اللبنانية وصغائرها. إذاً لماذا استمر على رأس المصرف المركزي وبقي "الأيقونة" التي يطل بها لبنان على العالم؟. الأرجح ان الافتراء على هذا الرجل وتحميله موبقات سلطة المحاصصة سببه الأساس أنه "ماروني" وكان على الدوام احتمالاً صائباً ليتبوء سدة الرئاسة الأولى، علماً أنه لم يستثمر يوماً لا في الدين ولا في الطائفة.
كل هذا يحصل، ولم يتذكر أي ٌ من المتحاملين على الرجل كيف نجح بتثبيت سعر الصرف زهاء ثلاثة عقود هيمنتان سورية وايرانية مصحوبتين بموجة اغتيالات كان اشدها إيلاماً وقسوة قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخيرةً من النواب وقادة الرأي. وفي الأثناء تخللها سنوات من الشلل المؤسساتي بكل معنى الكلمة، في رئاسة الجمهورية والبرلمان المُمدد لنفسه، ناهيك عن عطب السلطة التنفيذية في حكومات تصريف الاعمال. ومن دون أن ننسى عدد الحروب مع العدو الإسرائيلي، وأن لبنان كان أول من وقع في دائرة الاستهداف الارهابي منذ أحداث الضنية عشية العام 2000 وصولاً إلى معركة فجر الجرود وما بينهما من هجمات ارهابية ضربت في انحاء البلد كله.
إذا كان المطلوب بديلاً عن رياض سلامة فهذا لا يبرر على الإطلاق بشاعة ما يحصل من رداءة سياسية ضد الرجل وضد المصرف المركزي لأنهما آخر ما تبقى للبنان. وفي كل الأحوال يبقى الرجل مسؤولاً ومُطالباً بأن يخرج إلى العلن ليُعلن على رؤوس الأشهاد ما ارتكبته المنظومة الحاكمة برمتها، وكيف لعبت وتلاعبت بمصائر اللبنانيين، وكيف فسدت وأفسدت وجعلت الدولة نهباً للاستقطابات الميليشياوية.
كمال الاسمر - كاتب سياسي