بين قومية "البعث" وقومية الخميني!

بين قومية "البعث" وقومية الخميني!
الأربعاء 15 أغسطس, 2018

في مثل هذه الأيام من صباح الثاني من آب 1990 فاجأ الرئيس العراقي صدام حسين الحكام العرب بغزوه الكويت فيما كانوا هم ينتظرون قدومه الى القاهرة للمشاركة في مؤتمر القمة العربية التي تقرر عقده خصيصا لايجاد مخرج للأزمة. كان صدام يعتبر نفسه  قائد الأمة العربية وصانع مجدها و"انبعاثها" (نسبة لحزب "البعث"). لم يكن يهمه طبعا ان يشارك في اي قمة مع "الرجعيين العرب" بقدر ما تكرسه هذه القمة زعيما او تقدم له الدعم غير المشروط في معركته الكبرى من اجل تحقيق "الوحدة العربية". وكما فعل في حربه مع ايران الخمينية التي دامت ثماني سنوات (1980-1988) بوضع العرب، وتحديدا دول الخليج، أمام الأمر الواقع فارضا عليهم الدعم المالي والعسكري دفاعا عن "شرف الأمة" من الغزو الفارسي، كذلك فعل عندما غزا الكويت ودمرها وشرد أهلها. فهو لم يرد على اتصال الملك السعودي فهد ذلك الصباح الا بعد ساعات من عبور قواته الحدود باتجاه الكويت العاصمة مرسلا اليه عزت الدوري، الذي أتى ليضعه أمام الأمر الواقع وليبلغه ان صدام قد اتخذ قراره بضم "المحافظة التاسعة عشرة" (الكويت)، وليطمئنه ان ليس في نيته مهاجمة السعودية! والدوري هذا لا يزال على ما يبدو على قيد الحياة متخفيا في البادية العراقية يناضل من اجل "عزة الامة العربية".

قرار غزو الكويت كان بمثابة "اقتصاص من الخونة" الذين طعنوا صدام بالظهر، والذين رفضوا التخلي له عن جزيرة بوبيان الكويتية ورفضوا مده بأكثر مما حصل عليه من ملايين الدولارات خلال حربه مع ايران. كان الابتزاز السياسي والمالي مستمرا منذ سنوات للكويت والسعودية ودول الخليج الأخرى خلال حرب الخليج التي أرادها النظامين، الخميني القابض حديثا على السلطة في طهران ويريد "تصدير الثورة" وبسط نفوذه في الخليج، وصدام الذي كان قد استاثر قبل أشهر بالسلطة في بغداد بعد تهميشه أحمد حسن البكر، ويطمح هو الآخر الى الزعامة العربية عبر اللعب على وتر العصب القومي محذرا من الغزو الفارسي. ولكي تكتمل عناصر المشهد والسيطرة على عواطف الشارع العربي رفع صدام خلال غزوه للكويت لواء القضية وعلم فلسطين وراح يطلق صواريخ الكيماوي على اسرائيل، من دون ان ينسى مدى تأثير العامل الديني شاهرا اسلام الدولة العراقية ودامغا علمها بالاسلام محولا الحرب من صراع مصالح ونفوذ الى "حرب جهادية" من اجل فلسطين والاسلام. وراحت الجماهير العربية، وبالأخص في دول شمال افريقيا تتظاهر بعشرات الألوف دعما ل"صدام البطل القومي والمحرر". ثمان سنوات متواصلة من الحرب العبثية المدمرة التي حصدت ملايين الضحايا من البلدين وقودا من اجل تحقيق رغبة نظامين مستبدين، صاحبا مشروعين قوميين عنصريين توسعيين يقومان على سحق شعبيهما وعسكرة مجتمعاتهما وتبديد ثروات وطاقات البلدين.

وكانت فلسطين للاثنين، بداية "البعث" في سوريا والعراق ومن ثم الخمينية لاحقا، هي الهدف المعلن لكل المعارك والحروب والغزوات، وباسمها ارتكبت كل المعاصي، ومن أجلها استعمل الفلسطينيون وقودا لكل المشاريع والخطط والصفقات. حتى ان غزو الكويت، البلد العربي البعيد آلاف الكيلومترات عن فلسطين، قام به صدام من أجل تحرير فلسطين والقضاء على اسرائيل. ربما انه كان يؤمن بلعبة البيلياردو؟! وقد خاصم ايضا وتقاتل مع "الاشقاء" العرب من أجل فلسطين وباسمها. وكذلك فعل رفيقه في الحزب حافظ الأسد، الذي ما ان استلم السلطة في سوريا بانقلاب على رفاقه في الحزب حتى بدأ خلافه مع الاردن، ومن ثم صدامه مع رفيقه صدام، باسم القضية الفلسطينية. ولكنه في الحقيقة كان قد "قدم اوراق اعتماده" قبل سنوات عندما كان وزيرا للدفاع خلال حرب 1967 فاعطى أوامره للجيش السوري بالانسحاب من القنيطرة وتسليم هضبة الجولان، ووقع بعد حرب 1973 اتفاقية الهدنة مع اسرائيل. وها هي اليوم اسرائيل توافق على عودة قوات الابن بشار الى الجولان لانها تشكل ضمانا لأمن اسرائيل كما اعلن رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو ب"عضمة لسانه". وهوعمليا، ومن قبله والده، على مدى اكثر من اربعين سنة لم يطلق طلقة واحدة على اسرائيل، ليس من اجل فلسطين وانما ليس حتى من اجل تحرير الجولان الارض السورية. ولكنه يفاخر مع ذلك بانتمائه الى "فريق الممانعة" الذي تقوده ايران الملالي، ويتشدق باعلان مواقف صوتية رافضة للاحتلال ويتوعد اسرائيل عندما تقصفه بانه "يحتفظ بحق الرد في الوقت والزمان المناسبين"؟!

وقد أصبحت سوريا اليوم أرضا سائبة تجثم على أرضها جيوش من كل حدب وصوب، روسية واميركية وتركية واسرائيلية وايرانية مع ملحقاتها من ميليشيات لبنانية وعراقية وافغانية وباكستانية، و"داعش" و"النصرة" واخواتهما... في ما يبدو انه مقدمة لدويلات سورية كما كانت عليه في العشرينيات، أما الرئيس-الدمية فيبدو غافلا يتكلم عن سيادة سوريا ووحدتها. ناهيك عن ان "البعثين" السوري والعراقي، الأسدي والصدامي، لم يتوانيا يوما عن السعي لفرض سيطرتهما على الفلسطينيين والامساك بزمام قرار منظمة التحرير الفلسطينية، او استتباع بعض المنظمات الفلسطينية بالقرار السوري او العراقي، حتى ان حافظ الأسد قد توصل الى طرد ياسر عرفات من سوريا عام 1983 بعدما اضطرت منظمة التحرير ومقاتليها مغادرة لبنان على اثر الاجتياح الاسرائيلي عام 1982. وكان ابو عمار قد رفض ان يكون الخروج الى سوريا كي يتجنب الخضوع لضغوطات النظام السوري او ان يمارس الأسد وصايته على القرار. ناهيك عن كل ما عانته في ما بعد المخيمات الفلسطينية في لبنان من حصار خانق وفتاك دام أشهرا وأشهر على أيدي ميليشيا "حركة الأمل" بايعاز من النظام "البعثي" السوري القومي العربي. فيما كان صدام "البعثي" العراقي القومي العربي يجند بعض أزلامه من الفلسطينيين ليقوم بتصفية بعض المسؤولين والوجوه الفلسطينية هنا وهناك...  

أما النظام الايراني فقد رفع لواء الجانب الفولكلوري من القضية الفلسطينية، فحول أولا سفارة اسرائيل في طهران الى سفارة فلسطين وراح ينظم الاحتفالات الدينية والمهرجانات لفلسطين، ويخصص مناسبات سنوية ليوم القدس، خالطا بين الوطني والديني، ويغدق الأموال على بعض القوى والمنظمات الفلسطينية الى ان تمكن من الحلول محل الوصايتين السورية والعراقية، وأصبح له موطىء قدم في الساحة الفلسطينية. الا انه لم يكتف بلعب دور الشريك بل سعى للمزايدة على الفلسطينيين والتقدم للامساك بما عرف لعقود ب"الجبهة الأمامية" اي الحدود اللبنانية-الاسرائيلية عبر استمالة الأسد "البعثي" واطلاق "حزب الله" في لبنان وتسليحه وتدريبه "من اجل الجهاد وتحرير فلسطين"! وبعد اكثر من ثلاثين سنة أصبح اشتراك "حزب الله" في القتال في سوريا دفاعا عن نظام السفاح بشار الأسد مهمة نضالية جهادية تصب في اطار مقاتلة اسرائيل والهجمة الاستعمارية على سوريا، فيما ينصاع ولي أمره الايراني للاملاءات الاميركية والروسية والاسرائيلية بالابتعاد 85 كلم عن الحدود السورية-الاسرائيلية في هضبة الجولان. وهكذا تلتقي اسرائيل وايران في الدفاع عن نظام الدمية الذي يرتضي ضمان أمن اسرائيل مقابل ان يبقى ولو صوريا في الحكم.

لم يتغير شيئ اذا منذ نحو أربعين سنة، وقبل ذلك وبعده. قومية "البعث" العربية وقومية الملالي الفارسية. يلتقي الخطاب القومي بالخطاب الديني. يكفي ما يجري في العراق وما يجري في سوريا... أنظمة قومية مستبدة، توسعية ومتآمرة. وجهان لعملة واحدة!

 

سعد كيوان

كاتب ومحلل سياسي