المسيحيون عاجزون عن توفير بديل ناجع، وحزب الله يعمل على احتكار فكرة الطائفة المميزة.
تدخل القوى المسيحية على خط العوائق التي مازالت تمنع تشكيل الحكومة اللبنانية وتعطل النظام السياسي برمته. ورغم أن الانقسام المسيحي يعود إلى سنوات ماضية، إلا أنه سجل أعلى تصدعاته إثر الانتخابات الأخيرة في مايو 2018، ضمن تصعيد سياسي عام يعيش على وقعه لبنان وساهم فيه بشكل كبير التحالف بين التيار الوطني الحر، بقيادة الرئيس ميشال عون وصهره وزير الخارجية جبران باسيل، وحزب الله. شكل هذا التحالف خرقا في التركيبة اللبنانية المبنية على ثنائية مسيحية/إسلامية تتخطى الطوائف والمذاهب، وأثّر على ما كان يعرف بالمارونية السياسية في لبنان بالإضافة إلى تكريس انقسام سني شيعي يستمد تصدعاته من تأثيرات خارجية.
العرب - بيروت – تسلّط أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية الضوء على ظواهر التصدع داخل ما كان يعرف بالمارونية السياسية في لبنان. فالأزمة في واقعها تتأسس على خلاف مسيحي-مسيحي، أو بالأحرى ماروني-ماروني، حول طبيعة الحصص، وبالتالي طبيعة المنافسة على قيادة المسيحيين في البلد، خصوصا وأن مآلات هذا التنافس تفتح الباب على منافسة مضمرة لرئاسة الجمهورية عام 2022.
دور محايد
في وقت كان ينتظر من المارونية السياسية أن تلعب دورا حيويا محايدا في موسم الانقسام السني الشيعي في المنطقة عامة وفي لبنان خاصة، يستنتج المراقبون أن المسيحيين باتوا طرفا في هذا الانقسام وباتوا مرتهنين لنتائجه.
وكانت بعض الآراء قد راجت في السنوات الأخيرة داعية إلى تخليص لبنان من هذا النزاع المذهبي السني الشيعي الذي لا آخر له، من خلال إعطاء دور قيادي للمسيحيين قد يشبه ذلك الذي كانت تلعبه المارونية السياسية قبل اتفاق الطائف عام 1989.
وإذا ما كانت هذه الدعوات لا تروم إلغاء مفاعيل هذا الاتفاق الذي أنهى 15 عاما من الاحتراب الأهلي، فإن أصحاب هذه الآراء سرعان ما شككوا في أن يكون لمسيحيي هذه الأيام مشروع لبناني مختلف ومستقل عن المشاريع التي تقترحها وتروج لها بقية المكونات اللبنانية.
ويلفت بعض الباحثين في شؤون المارونية السياسية إلى أنه يجب وضع هذه المسألة في سياق تاريخي لفهم الواقع الراهن الذي تعيشه الطبقة السياسية المسيحية اللبنانية. فقد جرّدت الحرب اللبنانية المسيحيين من مرجعيات دولية كانوا يستقوون أو يستأنسون بها، وتخلّت العواصم الدولية الكبرى عن المسيحيين في لبنان لصالح تسويات دولية إقليمية وضعت لبنان تحت الوصاية السورية الكاملة منذ عام 1990.
واستهدفت تلك الوصاية كسر التميز المسيحي ومحاولة تدجينه وجعله جزءا من أجنداتها في البلد. ويذكّر الباحثون أن دمشق في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد ادّعت دخولها إلى لبنان عام 1976 للدفاع عن المسيحيين ووجدت داخل المارونية السياسية تيارات وقيادات سوّقت لهذه الرواية.
وعلى الرغم من دفاع المارونية السياسية عسكريا عن نفوذها ضد منظمة التحرير الفلسطينية ثم ضد التدخل السوري، إلا أن نتائج الحرب الأهلية أضعفت العامل المسيحي وهمّشت دوره إبان فترة الوجود السوري، وجعلته تابعا لما تقرره قيادة المخابرات السورية في مدينة عنجر في البقاع اللبناني.
وتشير مراجع مسيحية سياسية أن موقف البطريرك الماروني السابق نصرالله صفير، كما موقف التيارات والشخصيات السياسية المسيحية التي نشطت داخل لقاء قرنة شهوان، الذي برز عام 2001، أسس أرضية رافضة للأمر الواقع الذي فرضته دمشق على مسيحيي لبنان.
وأعاد التحاق تيارات سياسية وشعبية كبرى من الطوائف الأخرى، لا سيما السنّة منها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، بما كان يطالب به المسيحيون المعارضون لدمشق، الاعتبار لمارونية سياسية تعمل تحت سقف إجماع عام يختلف عن الشروط التي عملت وفقها قبل اتفاق الطائف. وكان يفترض أن يحرّر زوال الوصاية السورية وجلاء القوات السورية عن لبنان المسيحيين من الأسر السياسي الذي عانوا منه قبل ذلك. وكان لسان حال المسيحيين أثناء مسيرة 14 مارس الشهيرة عام 2005، واحدا في الطموح لبناء بلد قوي مستقل ولاستعادة المسيحيين لدورهم المصادر.
لكن، يحمّل لبنانيون الجنرال ميشال عون، العائد من منفاه في فرنسا عام 2005، بعد أسابيع على اغتيال رفيق الحريري، مسؤولية إحباط هذا الطموح، من خلال إبرامه لـ”ورقة التفاهم” مع حزب الله عام 2006، ثم تطويره لعلاقاته وعلاقات تياره مع المحور السوري الإيراني في المنطقة.
وتستبعد قيادات سياسية مسيحية إمكانية إنتاج مارونية سياسية ذات أجندات مستقلة. وترى هذه القيادات أن التشرذم المسيحي-المسيحي بلغ مستويات عالية، وأن أزمة المسيحيين باتت عائقا أمام تشكيل الحكومة اللبنانية ومعطّلا للنظام السياسي برمته.
وتضيف هذه المصادر أن الموفدين الغربيين الذين يعرفون لبنان جيدا، استنتجوا أثناء زياراتهم خلال الأشهر والسنوات الأخيرة عمق الأزمة عند المسيحيين، وخلصوا إلى أنهم (أي المسيحيين) عاجزون عن توفير بديل موضوعي ناجع عن ذلك النزاع بين السنة والشيعة.
غير أن السياسي اللبناني والنائب السابق د. فارس سعيد يرفض فكرة العمل على استعادة مارونية سياسية مستقلة ومنفصلة عن السياق اللبناني العام. ويقول في تصريح لـ”العرب” إنه “لا مشروع مسيحيا في لبنان، هناك مشروع لبناني لكل الطوائف”. ويستشهد سعيد بما سبق أن قاله البطريرك صفير من أن “لبنان ليس للموارنة إنما الموارنة هم للبنان”.
بين التيار الوطني وحزب الله
ينقسم المسيحيون حول مدرستين بارزتين هذه الأيام لكنهما متجذرتان داخل الجدل المسيحي الداخلي في العقود الأخيرة. تعتقد المدرسة الأولى بأن على المسيحيين أن يكونوا جزءا من حلف أقليات في المنطقة يجمعهم مع أديان وطوائف ومذاهب وقوميات أخرى في المنطقة.
وتنهل هذه المدرسة من عقيدة رافقت إنشاء الكيان اللبناني بصفته وطن الأقليات. وتُوجه الاتهامات للرئيس ميشال عون أنه كان ومازال من أنصار هذه المدرسة، وأن ذلك يفسر نزوعه نحو التحالف مع حزب الله ودمشق وطهران على حساب علاقات صحية مع المحيط العربي.
أما المدرسة الثانية فتتأسس على تجربة المسيحيين في الحرب الأهلية والتحاق معظمهم باتفاق الطائف الذي أكد بالنص أن لبنان بلد عربي. وتقوم هذه المدرسة على الانتهاء من عقلية “الامتيازات” المارونية، والسعي للشراكة الكاملة مع المسلمين طالما أنه تم الاتفاق على أن لبنان وطن نهائي لكل اللبنانيين، والعمل على أن يكون لبنان جزءا من المنطقة العربية ومنظومتها السياسية.
ويقول سعيد، وهو منسق الأمانة العامة لقوى 14 آذار، والذي رفض التسوية التي أتت بعون رئيسا لبنان، “سقطت فكرة لبنان ملجأ لأقليات المنطقة، وسقط مشروع الموارنة طائفة مميّزة، وانطلقت فكرة لبنان العيش المشترك، وهو معنى لبنان في صلب اتفاق الطائف والدستور”.
وفيما يستنتج مقربون من عون أن التيار العوني وأداته المتمثلة بحزب التيار الوطني الحر تمثل قوة المسيحيين واستقلالهم، وبالتالي تمثل استعادة المارونية السياسية لدورها القديم، تشكك آراء أخرى في الأمر.
وتعتبر هذه الآراء أن العونية، كتيار سياسي، تنهل قوتها من تحالفها مع حزب الله، وأن وقوف عون كما صهره وزير الخارجية جبران باسيل هذه الأيام ضد الصيغ الحكومية التي قدمها رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، يستند على هيمنة الحزب على الحياة السياسية كما على “فائض القوة” الذي يفرضه على لبنان وخياراته. ويرى البعض أيضا أن الإنجازات التي حققتها العونية لم تتم إلا بالتوافق مع التيارات السياسية الأخرى.
ويذكر السياسي المسيحي والوزير السابق سجعان قزي في هذا الإطار أنه وخلافا لما يظن البعض، “لم تحصل الانتصارات الواسعة التي حققها تيار الجنرال عون في الانتخابات النيابية الثلاث الأخيرة فقط (2005، 2009 و2018)، إنما عبر الاتفاقات الثلاثة الأخيرة التي عقدها الجنرال سنة 2006 مع حزب الله (‘تفاهم مار مخايل’)، وسنة 2015 مع حزب القوات اللبنانية (إعلان النيات)، وسنة 2016 مع تيار المستقبل (التسوية الرئاسية)”.
ويلفت سعيد في تصريحاته لـ”العرب” أن أمر المارونية السياسية بمعناه القديم ينتمي إلى تاريخ مضى، لكنه يلفت إلى أن “الشيعة اليوم يحاولون احتكار فكرة (الطائفة المميزة)، أي إنتاج شيعية سياسية تحلّ مكان المارونية السياسية التي كانت قائمة قبل الحرب”.
ويلاحظ سعيد أنه في سبيل ذلك فإن “الحجّة هي نفسها. قال الموارنة آنذاك إن لبنان (اختراع) ماروني، إذا يحق لنا أن نحكمه، ويقول الشيعة اليوم إننا (نحن حمينا لبنان من إسرائيل ومن الإرهاب) ومن يحمي الأرض يحكم الأرض”.
ويرى سجعان أن الاتفاقات الثلاثة التي أبرمها عون مع حزب الله وتيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية “كادت أن تعيد الدور الريادي التاريخي للمسيحيين عموما، وللموارنة خصوصا. فقبل هذه الاتفاقات التي ‘حررها’ العماد عون، كان المسيحيون شبه ملحقين بـ8 آذار و14 آذار، حيث كان القرار للشيعة وللسنة بقيادتيهما القطرية والقومية”. لكن التيار الوطني الحر، على أساس أن الجنرال أصبح رئيسا، “أهمل اتفاقه مع القوات والمستقبل وصان (تفاهم مار مخايل) برموش العيون”. وعلى هذا يستنتج المراقب بسهولة أن عون بات جزءا من الشيعية السياسية وبالتالي لا يمكن على أساس ذلك توقع استعادة دور المسيحيين القديم.
انقسام سياسي
يلاحظ المراقبون سريالية الانقسام السياسي المسيحي الذي لا يمكنه خلق اصطفافات واضحة المعالم. ويعتبر هؤلاء أن الانقسامات الحالية يرتبط بعضها بالتحاصص وليس بخلافات عقائدية، لا سيما تلك التي بين التيار العوني المتحالف مع دمشق وحزب الله وتيار المردة بزعامة سليمان فرنجية المتحالف أيضا مع دمشق وطهران.
ويبدو حزب الله مستفيدا من هذا الخلاف المسيحي-المسيحي بين حلفائه طالما أن أصحابه لا يستطيعون تجاوز أجندة الحزب وإرادته. ولا يشكل اجتماع القوى المسيحية المستقلة مع أحزاب مسيحية كبرى مثل “القوات” والكتائب على مناكفة عون-باسيل، قاعدة لمارونية سياسية جديدة، وإن كانت تشكل إرهاصات لتموضع جديد يقترب من الروحية التي أطلقها تحالف 14 آذار قبل 13 عاما.
بالمقابل يقارب فارس سعيد المسألة في بعد عام يتجاوز الخصوصية المسيحية داعيا السنة لأن يقاربوا المسألة بنضج وعناية فائقين. ويقول سعيد لـ”العرب” إن “مسؤولية السنة كبيرة في تطمين الجميع في اللحظة الإقليمية التي تخيف الجماعات الصغيرة مثل المسيحيين والدروز والشيعة والعلويين… إلخ”. ويلفت إلى أن “مشكلة السنة أنهم لا يحملون مشروعا عربيا تقدميا ولا وطنيا”. ويختم سعيد بالدعوة إلى تأمل التطورات في كل المنطقة التي “تنام على شيء وتستفيق على شيء آخر”، مؤكدا أن “ما يريده لبنان هو الحرية والعدالة من خلال الدستور والطائف وقرارات الشرعية الدولية”.
على أن العودة إلى منطق “المارونية السياسية”، حتى لو كان افتراضيا لم يعد مقبولا لدى التيارات السياسية للطوائف الأخرى. فالردود التي صدرت عن تيار الزعيم الدرزي وليد جنبلاط وتيار المستقبل بزعامة سعد الحريري وحركة أمل بزعامة رئيس المجلس النيابي نبيه بري تجمع في إطار الغمز من قناة الرئيس عون وقصر بعبدا على رفض تفريغ اتفاق الطائف والعودة إلى زمن المارونية السياسية وما كان يعرف بالامتيازات المارونية آنذاك.
والمفارقة أن عون بنى زعامته مستندا على خطاب شعبوي لقي رواجا داخل الأوساط الشعبية المسيحية يدور حول ضرورة العودة بالمسيحيين إلى ما قبل الطائف. ولطالما ردد عون أن الطائف صادر صلاحيات رئيس الجمهورية، وهو في ما يردده عن “الرئيس القوي” يدغدغ مشاعر مسيحيين ما زال يمتلكهم حنين لحقبة ما قبل الحرب الأهلية.
ويخلص سياسيون لبنانيون مخضرمون إلى أنه مقابل شيعية سياسية يقودها الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل، ومقابل سنية سياسية يقودها تيار المستقبل رغم تقلص كتلته النيابية مؤخرا، فإن المارونية السياسية غائبة لكنها مستبدلة بمارونيات سياسية متعددة قلما يجمعها رابط “لبنان المسيحي” الذي كان يجمع عرابي المارونية السياسية التي حكمت لبنان من الاستقلال حتى الطائف.
الوزير السابق سجعان القزي