المجمع البطريركي الماروني - الكنيسة المارونيّة والسياسة

المجمع البطريركي الماروني - الكنيسة المارونيّة والسياسة
السبت 10 يونيو, 2006

 

الفصل الثاني : مرحلة ما بعد الحرب واتّفاق الطائف

 

  1. دفع هذا الوضع المأساويّ الكنيسة المارونيّة إلى تركيز جهودها على وقف دوّامة العنف، التي كانت تشتدّ يومًا بعد يوم حتى باتت تهدّد المصير الوطنيّ برمّته. فعملت من هذا المنطلق على تشجيع الساعين إلى إيجاد الحلول لإنهاء الحرب، وساهمت في بلورة الأسس والمفاهيم التي ارتكز عليها اتفاق الطائف (1989). ونظرت الكنيسة إلى هذا الاتفاق على أنّه مدخل لطيّ صفحة الصراعات الماضية بين من كان يطالب، باسم العدالة، بتحسين شروط مشاركته في الدولة، وبين من كان يسعى، باسم الحريّة، إلى حماية الكيان وتثبيت نهائيّته. ورأت الكنيسة كذلك أنّ هذا الاتفاق يثبّت أولويّة العيش المشترك على كلّ ما عداه، ويجعل منها أساسًا للشرعيّة.

 

  1. حسمت مقدّمة اتفاق الطائف الجدل حول طبيعة العقد الاجتماعيّ بين اللبنانيين فاعتبرت أنّ العيش المشترك هو في أساس هذا العقد وأنّ لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. كما أوضح ماهيّة النظام اللبنانيّ: لبنان واحد موحّد، سيّد، حرّ، مستقلّ ونهائيّ لجميع أبنائه وعلى كامل أرضه، وهو عربيّ الهويّة والانتماء، ويلتزم بكونه عضواً مؤسّسًا في الجامعة العربيّة وفي منظمة الأمم المتحدة وفي الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. وقالت إنّ النظام جمهوريّ ديموقراطيّ برلمانيّ، يقوم على احترام الحريّات العامّة، لاسيّما حريّة المعتقد، وعلى العدالة والمساواة ومبدأ الفصل بين السلطات والشعب هو مصدر السلطات. وأنهت بأنّ لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

 

  1. لقد تمكّنت سلطة الوصاية السوريّة من تحوير مضمون اتفاق الطائف فضربت العقد الإجتماعيّ في الصميم ما أدّى إلى إفراغ الدولة من قرارها، وإفراغ الحياة السياسيّة من السياسة. ووضعت خطّة استهداف مبرمجة اتّخذت أشكالاً متنوّعة: استهداف سياسيّ عبر اعتماد قوانين انتخاب لا تراعي التمثيل الصحيح، واستهداف أمنيّ طاول عددًا من التنظيمات والشخصيّات السياسيّة والشباب المسيحيّ في لبنان والخارج، واستهداف ديمغرافيّ تمثّل بإقرار مرسوم التجنيس، عام 1994، الذي منح الجنسيّة دفعةً واحدة لما يزيد عن ثلاثماية ألف شخص، معظمهم من غير المسيحيّين ومن غير مستحقّيها ومن حاملي جنسيّات أخرى، واستهداف إعلاميّ بغية تخوين جماعيّ للمسيحيين وتشويه صورتهم والنيل من دورهم الرائد في لبنان. ولعلّ التطوّر الأهمّ الذي داخل الممارسة السياسيّة في لبنان ما بعد الحرب، تمثّل في تعطيل المساءلة والمبادرة والقدرة على الممانعة في الشأن السياسيّ بالوسائل الديمقراطيّة، وهو الدور الذي لازم الموارنة، كنيسةً وشعبًا وقادةً، منذ نشوء الدولة إلى اليوم، ما أدّى إلى تقويض إرادتهم الحرّة وطاول مرجعيّاتهم الروحيّة وقياداتهم السياسيّة.

 

  1. حيال التدهور الحاصل في الوضع اللبنانيّ وانسداد آفاق التقدّم نحو الإصلاح الحقيقيّ، وضعت الكنيسة المارونيّة مذكّرة مفصّلة عام 1998، جاء فيها أنّ "المشكلة السياسيّة القائمة هي أساس كلّ المشاكل والأزمات التي نعاني منها. ولذلك، يجب قبل كلّ شيء تحقيق الوفاق الوطنيّ، بتطبيق وثيقة الوفاق الوطنيّ نصًّا وروحًا... ويتحقق هذا الوفاق الوطنيّ بالاتفاق على قيم مشتركة، هي الحريّة والديمقراطيّة وسيادة القرار السياسيّ الداخليّ وصياغته في المؤسّسات الدستوريّة، وتجسيد هذه القيم الوطنيّة على قاعدة العيش المشترك المترجمة بالمشاركة المتوازنة المسيحيّة والإسلاميّة في الحكم والإدارة. وبتطبيق عدالة شاملة غير مجتزأة وغير مسيّسة... إلى متى يستمرّ الاستقواء بالخارج داخل السلطة اللبنانيّة، لماذا لا تنظّم العلاقات المميّزة مع سورية على قاعدة الولاء للبنان ومصلحة البلدين بالمساواة، فإذا لم يتمّ ذلك كانت العاقبة الوخيمة على لبنان وسورية معًا..."[1].

 

  1. لقد مرّت سنوات من الجهاد، بالكلمة والموقف والحقّ والإيمان، لعبت فيها الكنيسة المارونيّة دورًا رئيسيًّا على مستوى الوطن كان من أبرز محطّاته النداء الشهير في 20 أيلول 2000 الذي جاء بعد تحرير الجنوب والبقاع الغربيّ في 23 أيّار 2000 من الاحتلال الإسرائيليّ. لقد وضع هذا النداء الأسس لإنهاء سلطة الوصاية السوريّة واستعادة السيادة والاستقلال والقرار الحرّ. سنوات مرت، وُصف فيها لبنان بالبلد المحتضر، وخلص بعدها وطنًا للحياة. فبعد أن كان ساحة لتسلّط الآخرين، صار ساحة شهادة أبنائه جميعًا لحريّتهم، وزخمًا لأكبر انتفاضة شعبيّة في العصر الحديث. لقد تمكّنت الكنيسة بمشاركة معظم الشعب اللبنانيّ بأن تحفر تاريخ لبنان الحديث بإبرة الحق والإيمان، فوق صخرة الظلم والليل الطويل، فتمكّنت من إنقاذ الوطن واستعادة الدولة.

 

  1. وشكّلت انتفاضة الاستقلال، اثر استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، لحظة تاريخيّة، فتحت الباب للخلاص الوطنيّ بتوحّد غالبيّة الشعب اللبنانيّ على نحوٍ غير مسبوق. إنّ خروج الجيش السوريّ من لبنان في 26 نيسان 2005، بعد ثلاثين سنة من سلطة الوصاية، كان تتويجًا لنضال الشعب اللبنانيّ المقيم والمنتشر، وتوحّده، وبمثابة الحلم الذي تحوّل إلى حقيقة.

 

  1. واليوم، يتشارك اللبنانيّون، مسيحيّون ومسلمون، في همومٍ كثيرة، يأتي في مقدّمها:
  • استكمال بناء الدولة المدنيّة الحديثة، القائمة على حكم المؤسّسات الوطنيّة، وعلى وجوب ممارسة سلطتها وسيادتها على جميع المقيمين على ترابها الوطنيّ، إلى جانب مشاكل أخرى ترتبط بمعالجة الفساد والهمّ المعيشيّ الذي لا يميّز بين اللبنانيّين وفي احترام حقوق الإنسان وفي أن يكون القضاء سلطة وسلطة مستقلّة.
  • إعادة بناء علاقات طبيعيّة مع سورية على قاعدة التكافؤ والمساواة والمصالح المشتركة، عبر مراجعة شجاعة لتجربة الماضي، على اعتبار أنّ كلفة التفاهم تبقى أقلّ من كلفة النزاع. وإذا كان صحيحًا أنّ بين الدولتين تباينات عميقة في طبيعة النظام السياسيّ وفي مسائل أخرى، فإنّ ذلك لم يلغ المشترك في الجغرافيا والتاريخ والحضارة وفي التزام القضايا الوطنيّة الكبرى، وفي مقدّمها قضيّة التحرّر الوطنيّ والاستقلال وفي التواصل المستمرّ بين الشعبين عبر التاريخ.
  • تطبيع العلاقات بين الدولة اللبنانيّة والسلطة الفلسطينيّة، وتأمين الحقوق الإنسانيّة للفلسطينيّين في لبنان، في انتظار الحلّ الذي يتيح لهم الانضمام إلى الدولة الفلسطينيّة المستقلّة العتيدة.

إلا أنّ أهمّ التحدّيات المتّصلة بالشأن السياسيّ تبقى بالعودة إلى الهويّة المارونيّة آخذين بعين الاعتبار انتشار الكنيسة المارونيّة، وبأن يبقى لبنان مختبرًا للحوار الإسلاميّ المسيحيّ في عالم يشهد انقسامات بليغة في هذا المجال، وفي التضامن مع العالم العربيّ لدحض مقولة صراع الحضارات التي تضع الإسلام والمسيحيّة في مواجهة بعضهما البعض.

الفصل الثالث : التحديّات

 

أوّلاً: العيش المشترك

  1. ترى الكنيسة المارونيّة أنّ لبنان هو اليوم أمام دوائر ثلاث تتداخل في ما بينها وتؤثّر الواحدة على الأخرى: الأولى مرتبطة بواقعه ومستقبله بعد أن استعاد سيادته واستقلاله وحريّة قراره، والثانية مرتبطة بالمخاض الحضاريّ الذي يعاني منه العالم العربيّ، والثالثة مرتبطة بما راح يعرف اليوم بالنظام العالميّ الجديد. وهذا التداخل بين المحطّات الثلاث يتمّ في زمن يشهد فيه العالم تسارعاً هائلاً لحركة التاريخ، الأمر الذي يجعل الفصل بين تحدّيات الداخل اللبنانيّ ومشكلات الخارج أمرًا صعبًا وربّما مستحيلاً. فعلينا أن نحدّد موقفنا ودورنا في عالم متغيّر يبحث عن ذاته، وسط تساؤلات كبرى وصعوبات متفاقمة.

 

  1. يتأسّس دور لبنان على تجربته المميّزة في العيش المشترك الذي هو قدر اللبنانيّين. ولكنّه أيضًا خيارهم الحرّ. المسلمون كما المسيحيّون، خبروا العيش المشترك، بحريّة ومسؤوليّة على مدى قرونٍ طويلة، فكانت حقباتٌ مضيئة، لم تخلُ من بعض الصعوبات. لذلك، فهم يتحمّلون مسؤوليّة ترسيخ هذا العيش، وتخطّي ما لحق به من خللٍ ومشاكل، لأنّ ما يجمع بينهم هو أكثر مما يفرّق: "يجمع بينهم الإيمان بالله الواحد، الانتماء إلى وطنٍ واحد، والارتباط بمصيرٍ واحد[2]. العيش المشترك، إذًا، هو "مسؤوليّة نحملها معًا أمام الله، لأنّ الله هو الذي دعانا وأراد لنا أن نكون معًا، وأن نبني معًا وطنًا واحدًا. وجعلنا في هذا البناء المشترك مسؤولين بعضنا عن بعض[3]".

 

  1. يتخطّى العيش المشترك مستوى التساكن أو التعايش بين المجموعات اللبنانيّة، فهو نمط حياة يؤمّن للإنسان فرصة التواصل والتفاعل مع الآخر بحيث تغتني شخصيّته من تلقّيها جديد الآخر، وتغني هي بدورها شخصيّة الآخر، وذلك من دون إلغاء للخصوصيّات والفوارق التي تصبح في هذه الحال مصدر غنى للجميع. إنّه نمط حياة يقوم على احترام الآخر في تمايزه وفرادته، فلا يسعى إلى إلغائه أو استتباعه، ولا يفرض عليه انصهارًا يلغي خصوصيّته أو توحّدًا يختزل شخصيّته ببعد واحد من أبعادها. إنّه نمط حياة يقوم على احترام الحياة في تنوّعها وغناها، من دون إخضاعها لترابية تفقدها غناها، أكانت هذه التراتبيّة ثقافيّة أم اجتماعيّة أم عدديّة، فتفرز الناس أقليّات وأكثريّات، وترسم فيما بينهم خطوط تماس سرعان ما تؤدّي إلى التصارع والتصادم. إنّه نمط حياة لا يحدث في داخل الإنسان ذاته شرخًا بين انتماءاته المتعدّدة التي تتشكّل منها هويّته، وتاليًا لا يضعف تماسك شخصيّته وتكاملها، ويفسح في المجال أمامه للبحث عن خلاصة موحّدة لمكوّناته المتعدّدة. والمورانة الذين ساهموا مساهمة أساسيّة في خلق هذا النمط المميّز من الحياة، من خلال إصرارهم التاريخيّ على التواصل والانفتاح، مدعوّون دائمًا إلى تجديد صيغة العيش المشترك[4].

 

  1. إنّ الحرب التي كادت أن تقضي على العيش المشترك بين اللبنانيّين أدّت إلى تحوّلات كبيرة في وعي اللبنانيّين لذاتهم ولوطنهم. فبعد أن كانت كلّ مجموعة تبحث عن ضمانات لها خارج الشريك الآخر، قام استقلال لبنان في العام 2005 على موقف مشترك مسيحيّ وإسلاميّ، يؤكّد حقّ اللبنانيّين في أن يكون لهم وطن حرّ ومستقلّ، وأن يعيشوا فيه مختلفين من حيث الانتماء الدينيّ، ومتساوين في مواطنيّتهم. واللبنانيّون مطالبون باستخلاص دروس الحرب، والإدراك أنّ مصير كلّ واحد منهم مرتبط بمصير الآخر، وأنّ خلاص لبنان يكون لكلّ لبنان أو لا يكون، ويقوم بكلّ لبنان أو لا يقوم، ذلك أنّه ليس من حلّ لمجموعة دون أخرى، ولا لمجموعة على حساب أخرى.

 

  1. تشكّل هذه الرسالة مساهمة لبنان في إغناء الحضارة الإنسانيّة. وهي مساهمة ضروريّة في هذه الحقبة من تاريخ البشريّة، التي تشهد مخاضًا صعبًا يتمحور حول سؤال من طبيعة وجوديّة: كيف يمكن أن نعيش معًا مختلفين ومتساوين؟ وهي أيضًا مساهمة ضروريّة لوضع حدّ لدوّامة العنف التي تتسبّب فيها التقابلات التي تضع وجهًا لوجه هويّات ثقافيّة وسياسيّة متنوّعة، فتجعل من كلّ واحدة منها خطرًا يتهدّد الأخرى، وتدفع صاحب الهويّة إلى العمل على إلغاء الآخر المختلف باعتباره مصدر خطر عليه. "فالتحدّي الأكبر الذي يواجه البشريّة اليوم، هو مشكلة العيش معًا بين مختلف العائلات البشريّة. كيف يمكن أن نعيش معًا في الاحترام والسلام مع التعدّديّة التي يمتاز بها عالمنا؟ كيف يمكن أن نحوّل التعدّديّة من ذريعة للتنافر والتناحر إلى دعوة للتواصل والتكامل[5]؟"

 

 

  1. إنّ تجديد تجربة العيش المشترك لا يوفّر ضمانًا لمستقبل اللبنانيّين فحسب، بل يشكّل ضرورة لمحيطهم العربيّ، ويساعد في تجاوز هذه المرحلة الخطرة المسكونة بالحروب وبالصراعات على اختلاف أشكالها. من هنا ينبغي العمل على جعل التجربة اللبنانيّة، في صيغتها المتجدّدة، نموذجًا يمكن الإفادة منه في العالم العربيّ، بوصفه نمطًا حضاريًّا في البحث عن العيش المشترك والترقّي في مجتمعات تتميّز بالتنوّع والتعدّد، ومدخلاً لإعادة تعريف العروبة بوصفها رابطة حضاريّة تقرّب بين العرب لا مشروعًا سياسيًّا يباعد بينهم، وبوصفها أيضًا مدخلاً لتجديد مساهمة العرب في الحضارة العالميّة. ويشكل هذا الأمر إسهامًا لبنانيًّا في إخراج العالم العربيّ من المخاض الحضاريّ العميق الذي يعاني منه، "فهو عالم يبحث عن ذاته، وعن صيغة لوجوده، وعن موقع له في عالم اليوم، يستطيع من خلاله أن يكون عنصرًا إيجابيًّا في صنع الحضارة الإنسانيّة، والمساهمة في تثبيت دعائم الإستقرار والسلام، إنطلاقًا من أصالة هويّته وفرادة تراثه[6].

 

  1. "إنّ المشاكل التي ينطوي عليها هذا المخاض كثيرة ومتشعّبة ومعقّدة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، التراث والحداثة، والاستقرار السياسيّ، والنظم السياسيّة والاجتماعيّة، والتنمية الاجتماعيّة والاقتصاديّة، والوحدة في التنوّع بعيدًا عن الانقسام والتفتّت، والدين والمجتمع، والحريّات العامّة ومنها الحريّة الدينيّة وحريّة الضمير، ومشاكل العدل والسلام وحقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة، والتعامل مع الأقليّات على اختلاف أنواعها، وموقفه من عالم متنوّع ومتعدّد ومتطوّر. يعيش الإنسان العربيّ في خضمّ كلّ هذه المشاكل، يبحث عن ذاته وهويّته بين ذاكرة الماضي وأبواب المستقبل. وأمام هذا الرهان التاريخيّ، ويتقرّر مصيره ومستقبله بقدر ما يستوعب هذه التحدّيات، ويحدّد عناصرها المتشابكة، ويتحكّم بآليّتها، ويعمل على معالجتها بتأنّ وحكمة ودراية وصبر[7]".

 

  1. والكنيسة المارونيّة متفاعلة بانفتاح مع التاريخ السياسيّ للمحيط الذي تنتمي إليه. إنّ حضورها الكنسيّ يملي عليها أن تكون في وسط المجتمع الذي تعيش فيه علامة لحضور الربّ في عالمنا، وملح الأرض وخميرتها. إنّ الكنيسة المارونيّة، المتمسّكة بأصولها الأنطاكيّة ومعاقلها اللبنانيّة، تعيش انتماءها إلى الشرق بوعي أبنائها لدعوتهم ورسالتهم. وهي جزء من المسيرة الحضاريّة، في هذه المنطقة من العالم، لا ينفصل، إلى جانب مساهمتها الثقافيّة في إحياء التراث العربيّ والتعريف عنه. فقد التزمت الكنيسة المارونيّة قضايا العالم العربيّ، وساهمت في بلورة الوعي السياسيّ العربيّ، عبر دور الموارنة الرائد في الحداثة، وفي حركة التحرّر، وفي الفكر والصحافة، في لبنان ومصر وفلسطين وسورية. والمفكّرون الموارنة كانوا من أوائل الذين حذّروا من الخطر الصهيونيّ، وفي مطلع القرن المنصرم، قبل الحرب العالميّة الأولى، وبعدها.

 

  1. يشكّل لبنان من خلال عيشه المشترك المؤسّس على الحريّة والمساواة، والقائم على التنوّع في إطار وحدة تحترم الاختلاف على الصعيد العامّ، حاجة مستمرّة لتفاعل خلاّق بين المسيحيّة والإسلام، يمنح أبناءهما فرصة الاغتناء الروحيّ المتبادل من خلال العيش المشترك. إنّ هذه الحاجة أصبحت اليوم أكثر إلحاحًا من أيّ وقت مضى، ذلك أنّ المواجهة بين الشرق والغرب أخلت مكانها لمواجهة بين الشمال والجنوب. ولم تعد هذه المواجهة تعّبر عن نفسها بصيغة سياسيّة: الرأسماليّة في مواجهة الشيوعيّة، وإنمّا بمحاولة إعطائها صيغة دينيّة: المسيحيّة المتطرفة في مواجهة الإسلام الأصوليّ. إنّ المسيحيّين في لبنان والعالم العربيّ مدعوّون، في شكلٍ خاصّ، إلى محاربة بعض النظريّات في الغرب، التي تنظر إلى المسلمين وكأنّهم يشكّلون تهديدًا، والتي تؤدّي إلى رسم حدود دامية بين الإسلام والمسيحيّة. كما أنّ المسلمين في لبنان والعالم العربيّ مدعوّون إلى التصدّي لنظريّة الحرب الدينيّة التي ينادي بها بعض المتطرّفين، وكأنّ تحرّك الغرب مبنيّ على اعتبارات دينيّة، في حين أنّه محكوم بمصالح لا تمتّ إلى الدين بصلة.

 

ثانيًا: في بناء دولة ديمقراطيّة حديثة

  1. تحتاج صيغة العيش المشترك إلى دولة ديمقراطيّة وحديثة قادرة على حمايتها وتوفير ظروف تطوّرها. وتقوم هذه الدولة على التوفيق بين المواطنيّة والتعدّديّة، أيّ على الجمع بين دائرتين أساسيّتين في انتماء اللبنانيّين: دائرة فرديّة، مدنيّة، تتحدّد بالمواطنيّة التي ينبغي أن تطبّق على الجميع بالشروط نفسها؛ ودائرة جماعيّة، تتحدّد بالطائفيّة، التي تريد الاعتراف بالتعدد وبحقّ هذا التعدّد في التعبير عن نفسه. وقد أخذ دستور الطائف بهذا التمايز بين هاتين الدائرتين، حين أكّد في مقدّمته أنّ "لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".

 

  1. إنّ الدولة المنشودة هي دولة تؤمّن:
    • التمييز الصريح، حتى حدود الفصل، بين الدين والدولة، بدلاً من اختزال الدين في السياسة، أو تأسيس السياسة على منطلقات دينيّة لها صفة المطلق.
    • الانسجام بين الحريّة التي هي في أساس فكرة لبنان والعدالة القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات، والتي من دونها لا يقوم عيش مشترك.
    • الانسجام بين حقّ المواطن الفرد في تقرير مصيره وإدارة شؤونه ورسم مستقبله، وبين حقّ الجماعات في الحضور والحياة على أساس خياراتها.
    • الانسجام بين استقلال لبنان ونهائيّة كيانه، وبين انتمائه العربيّ وانفتاحه على العالم.

 

ثالثًا: المصالحة مع السياسة

 

أ. المشاركة في إدارة الشأن العامّ

  1. تتطلّب عمليّة إعادة بناء الدولة المصالحة مع السياسة. فالسياسة في نظر الكثيرين مرادفة للمناورات والخصومات والممارسات المشبوهة واستعمال النفوذ. هي الدوس على المبادئ للاستيلاء على السلطة، وهي الوسيلة الأسهل لتحقيق الثروات الخاصّة على حساب المصلحة العامّة. هذه الممارسة السياسيّة، رسّخت في عقول البعض مفهومًا خاطئًا للسياسة وجعلتها عملاً مدانًا. غير أنّ "السياسة هي رهان كبير، هدفها الوصول إلى مجتمع يعترف فيه كلّ شخص بالآخر على أنّه أخوه ويعامله على هذا الأساس"[8]. فالسياسة شأن نبيل، لا بل فنّ شريف. لذا يجب إعادة الاعتبار للعمل السياسيّ، لأنّ السياسة هي خدمة من أجل الخير العامّ.

 

  1. السياسة نضال متواصل وممارسة يوميّة للأفراد كما للجماعات، تنتقل من جيل إلى جيل لإيجاد الحلول لمشاكل المجتمع ولتأمين حقّ الإنسان في الحريّة والعدالة والسلام والعيش الكريم بعيدًا عن الأوهام وتبسيط الأمور، لأنّ لا شيء في السياسة معطى بل هو قابل للتطوّر باستمرار. في اختصار، السياسة هي الاهتمام بالآخرين، والالتفات إليهم، والاستماع إلى مشاكلهم، ومساعدتهم، احترامهم، ومحبّتهم. إنّه لأمر ملحّ أن يعيد الموارنة الاعتبار للعمل السياسيّ، كما وصفه البابا بولس السادس: "بالطريق الصعب لعيش الالتزام المسيحيّ في خدمة الآخرين".

 

  1. على الموارنة أن يكونوا "ملح الأرض ونور العالم"، ملتزمين بكلّ خدمة يمكن تأديتها في قلب المجتمع، فيكون حضورهم فاعلاً وشجاعًا ومثابرًا في شؤون الوطن، فيقتحموا الحياة العامّة في جميع أوجهها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة؛ كلّ من موقعه ووفقًا لدعوته ورسالته وإمكاناته الخاصّة: في البلدة أو المدينة، في الجامعة، والنوادي، والنقابات، والمؤسّسات الاجتماعيّة، والجمعيات الإنسانيّة، والحركات والأحزاب، لأنّ الوصول إلى مجتمع أكثر عدلاً وأكثر احترامًا لحقوق الإنسان يتطلّب منهم المشاركة، كونها المدخل إلى تصويب الأمور. وهذا ما نبّه إليه الإرشاد الرسوليّ "العلمانيّون المؤمنون بالمسيح"، فقال: "إذا شاء المؤمنون العلمانيّون أن يبثّوا الروح المسيحيّة في النظام الزمنيّ، بالمعنى الذي أوردناه، أي عن طريق خدمة الشخص والمجتمع، فلا يجوز لهم قطعيًّا التخلّي عن المشاركة في "السياسة"، أي عن النشاط الاقتصاديّ والاجتماعيّ والتشريعيّ والإداريّ والثقافيّ، المتعدّد الأشكال، الذي يستهدف تعزيز الحيّز العامّ، عضويًَّا وعبر المؤسّسات"[9].

 

ب. الالتزام بالقيم الانجيليّة

  1. ساهمت الحرب في إضعاف نظام القيم في لبنان، وشهدت السنوات الأخيرة ممارسات سياسيّة بعيدة عن القواعد الأخلاقيّة. فلكي يستقيم الأداء السياسيّ وتستقيم المصلحة العامّة، فمن الملحّ أن يتجدّد الموارنة روحيًّا، ويستندوا في عملهم السياسيّ إلى أرضيّة صلبة من المبادئ والقيم والفضائل المسيحيّة. على الموارنة أن يعملوا لإعادة البريق والمعنى إلى هذه القيم، فيخدموا وطنهم مستقين من إيمانهم المبادئ الأساسيّة، ويساهموا في تراجع العنف والكراهيّة والظلم والاستبداد، ويبنوا مستقبلاً أكثر إنسانيّة، فيرفعوا صوتهم عاليًا للتنديد بمظاهر الفساد السياسيّ والاجتماعيّ، ويشهدوا للقيم الإنجيليّة في وطنهم، فتكون هذه القيم العين الساهرة ليظلّ النظام السياسيّ والاجتماعيّ في خدمة الإنسان وللدفاع عن الفقراء والمهمّشين والمرضى، ويعملوا على خلق فرص العدالة والمساواة بين الجميع.

 

  1. إنّ مشاركة الموارنة في السياسة تساعد في تفعيل الحياة السياسيّة عبر تجديد قياداتهم ومحاسبتها، وذلك عندما يختارون ممثّلين يتمتّعون بالمصداقيّة والشفافيّة والاستقامة المسلكيّة والشجاعة الفكريّة، قادرين على تقديم المصلحة العامّة على مصالحهم الفرديّة والفئويّة، ممثّلين يتحلّون بروح الخدمة والتضحية، ولديهم سعة الاطّلاع في التشريع والقدرة على الابتكار والتجدّد وتحسّس مشاكل العصر، ويعملون بروح السلام والحوار والاعتراف بالآخر، قادرين على التسوية من دون المساومة على المبادئ، ويدافعون بحزم عن حقوق الإنسان وكرامته، ويحاربون الفساد، ويفون بوعودهم ويُؤمنون بالديمقراطيّة والتعدّديّة والحريّات. عندها تبذل المواهب والفضائل المودعة لدى الموارنة، فتنتشر ثقافة الممارسة السياسيّة على أسس مسيحيّة في جميع أرجاء الوطن.

 

ج. تعزيز الثقافة والممارسة الديمقراطيّة

  1. والموارنة، الذين أظهروا دومًا تعلّقهم بلبنان حرّ سيّد ومستقلّ ذي نظام ديمقراطيّ، مدعوّون لأن يتمسّكوا بهذا النظام ويدافعوا عنه، لأنّه الشرط الأساس لبقاء لبنان؛ وأن يساهموا أكثر في تعزيز الثقافة الديمقراطيّة ومفهوم المواطنيّة الحقّة، أي أن يمارسوا الديمقراطيّة في حياتهم اليوميّة، فيعطوا الأولويّة للنقاش بدل التناحر، ويتحاوروا معتبرين أنّ الحقيقة جزء من تفكير الآخر، ويغلّبوا المنطق على الغرائز والانفعالات الآنيّة، ويبتعدوا عن العنف والكذب في سلوكهم اليوميّ. وبهذا، ينتقلون من مرحلة المواطن المستهلك القابل بما هو مفروض عليه، إلى المواطن الفاعل والمؤثّر في مجتمعه والقادر على التغيير بدءًا من ذاته.

المطلوب من الموارنة بصورة خاصّة إنّما هو بالذات ما يجب أن يقوم به أيضًا شركاؤهم في الوطن ليساهموا معًا في بناء "بيتهم المشترك". وفي النهاية، فإنّ الإرشاد الرسوليّ "رجاء جديد للبنان" ركّز عشرات المرّات على الرجاء، وعلى المثابرة والعزم الثابت، وعلى المتابعة من دون كلل وبشجاعة، لأنّ علينا كمسيحيين مؤمنين ألاّ نفقد الرجاء، حتى في أشدّ المواقف صعوبة. " لا يجوز للعلمانيّين المؤمنين، وقطعيًّا، التخلّي عن المشاركة في السياسة، أي عن النشاط الاقتصاديّ والاجتماعيّ والتشريعيّ والإداريّ والثقافيّ المتعدّد الأشكال، الذي يستهدف تعزيز الخير العامّ، عضويًّا وعبر المؤسّسات... إنّ إدارة الشأن العام هي سبيل إلى الرجاء، لأنّها تتّجه نحو عالم علينا أن نبنيه، ويلوح من خلالها أنّ التحوّلات ممكنة كي يتحسّن وضع البشر"[10].

 

  1. إنّ الشبيبة التي تواجه الصعوبات، وهي تحمل آمالاً وأحلامًا وتطلّعات، مدعوّة لكي تعطي الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة إنطلاقة جديدة. فلها الحقّ في المراقبة والمحاسبة والتعبير، لأنّ مستقبلها مرتبط بوجود مناخ ديمقراطيّ وبيئة سياسيّة سليمة، وهي أمل الكنيسة والوطن. كما أنّ النساء مدعوّات إلى قدر أكبر من المشاركة والمسؤوليّة، لأنّهنّ يساهمن في تجدّد العمل السياسيّ الديمقراطيّ بما لديهنّ من حيويّة وانفتاح وصدق في مقاربة المواضيع، وللحس الاجتماعيّ الذي يسمح لهنّ باستدراك المشاكل اليوميّة، خاصّة الإنسانيّة منها والتربويّة والصحيّة والبيئيّة. فالسياسة تتوجّه نحو المستقبل، أي نحو عالم علينا أن نبنيه، وأن نجدّده.

 

رابعًا: الانتشار المارونيّ في أبعاده السياسيّة

  1. ترتسم، اليوم، ملامح حقبةٍ جديدة، أمام الكنيسة المارونيّة، في تعاطي أبنائها بالشأن السياسيّ. فهم، وإن كانوا مرتبطين بأوثق الوشائج بكيان لبنان، تاريخًا ومصيرًا، إلاّ أنّ بعضهم بات يعيش في بلدان بعيدة عن البلد الأمّ، ويخضع لأنظمةٍ سياسيّةٍ متنوّعة، تختلف في كثير من الأحيان عن النظام الذي كان يعرفه في لبنان. إنّ هؤلاء يبقون موارنة، من دون شكّ، ولا يدخلون إلى بلدانهم الجديدة، وهم في حال افتقارٍ إلى اعتباراتٍ سياسيّةٍ وفكريّةٍ توجّه تصرّفاتهم، لأنّهم يستنيرون، عفويًّا، بتوجيهات الكنيسة الجامعة التي ينتمون إليها، وهي تدعوهم إلى الاندماج في أوساطهم الجديدة، وإلى المشاركة في الحياة العامّة، وسط الشعوب التي صاروا فيها مواطنين مكتملي الحقوق والواجبات. ومن المؤكّد أنّهم أضحوا ملتزمين بالأمانة لأوطانهم الجديدة، كما كانوا ملزمين بالأمانة والإخلاص لوطنهم الأوّل لبنان.

 

  1. لقد بات من الضروريّ النظر، بطريقةٍ علميّة، إلى مسألة الانتشار، وربطها بالحياة الوطنيّة في لبنان. من هنا ضرورة توضيح طبيعة العلاقة بين المغترب أو المنتشر ووطنه الأمّ والتشديد على حقّه في المشاركة بكلّ الوسائل ومنها الانتخاب والترشيح. والكنيسة المارونيّة مسؤولة، بنوعٍ خاصّ، على صعيد مكافحة أسباب الهجرة، عبر مساهمتها في بناء دولة الحقّ التي تكّرس المساواة في الحقوق والواجبات وتؤمّن الحياة الكريمة لأبنائها. أمّا الأجيال التي لم تعد مرتبطةً بالوطن - الأمّ والتي تغار على مواطنيّتها الأصليّة أو المكتسبة، فإنّ انتماءها إلى الكنيسة المارونيّة بات الرابط الأساسيّ بينها، أيًّا كانت انتماءاتها الوطنيّة، وباتت تشكّل جسور حوار وتفاهم بين الوطن الأم وبلاد الانتشار؛ وهذا مصدر قوّةٍ وغنى للكنيسة التي أضحت كنيسةً رسوليّةً عالميّةً.

 

  1. ويعرف الموارنة أيضًا بعض المتغيّرات في حياتهم، في داخل لبنان وفي المنطقة العربيّة التي يكوّنون جزءًا منها. إلاّ أنّ هذه المتغيّرات في الداخل، كما في الخارج، لا تنفي وجود ثوابت عندهم، في تصرّفهم السياسيّ، وفي خياراتهم الأساسيّة، أي في كلّ ما صار جزءًا هامًّا وجوهريًّا من هويّتهم الثقافيّة والروحيّة والاجتماعيّة، ومن التاريخ الطويل الذي ربط هذه الهويّة بكيان لبنان. يؤكّد البابا يوحنّا بولس الثاني هذا المنحى في إرشاده الرسوليّ "رجاء جديد للبنان" حيث يدعو أبناء الوطن اللبنانيّ، والموارنة من بينهم، إلى أن يعيدوا بناء وطنهم، وأن يغيّروا فيه ما يجب أن يتغيّر، ولكن على أساس إبقاء لبنان المستقبل أمينًا "لدعوته التاريخيّة". ولا بدّ من التأكيد في هذا السياق أنّ الموارنة المنتشرين معنيّون بدعوة لبنان هذه، وبالحفاظ عليها أسوة بإخوانهم المقيمين. فالمنتشر لا يتنصّل في انتشاره من تراثه الإنسانيّ والقيميّ. وهو إن فعل، فإنّه يتنصّل من ذاته الجماعيّة ومن إرثه الحضاريّ ويعري جذوره من عمقها التاريخيّ. ونحن نشهد اليوم تثبيتًا لهذا الأمر في اعتبار الحضارات مدعوّة إلى أن تلتقي عند الشعوب، وإلى أن تتكامل في حوار يغني الجميع ويعود بالنفع على الإنسانيّة بأسرها.

 

  1. وما يصحّ في الحديث عن أي انتشار في العالم، يصحّ بصورة أولى في الحديث عن الانتشار المارونيّ؛ والسبب في ذلك يعود إلى كون لبنان "أكثر من بلد" كما قال عنه البابا يوحنّا بولس الثاني، أي إلى كونه رسالة حضاريّة بامتياز تعني الشرق والغرب والعالم بأسره، وبخاصّة في هذا الزمن الذي يفتّش العالم فيه عن أسباب جديدة للإيمان بالعيش المشترك بين أديانه وحضاراته. وانطلاقًا من هذا الاعتبار، يصبح لبنان الرسالة هو القاعدة المشتركة في الفكر والعمل السياسيّين للموارنة، المقيمين منهم في لبنان والمنتشرين على حدّ سواء. فالسياسة عند المقيمين تتمحور حول الحفاظ على لبنان القيمة والكيان، الذي يحمل الرسالة ويتعهدها في خياراته كما في عيشه اليوميّ، وحول تطويره بما يتلاءم مع روح العصر. وهي عند المنتشرين تتمحور حول نشر روح الوفاق حيثما وجدوا، وسلوك طريق الحوار الحضاريّ بين الأديان والانتماءات البشريّة على أنواعها، وفي ذلك ما يدفعهم الى التعمق في ذاتهم الحضاريّة وتوسيع أرجائها على الآفاق الجديدة ولو كانت غريبة.

 

  1. في هذا الإطار الشامل لا يبقى الالتزام بلبنان موقفًا خاصًّا تتّخذه الكنيسة المارونيّة مفضّلة وطنًا على غيره من أوطان الأرض، بل يصبح سلوكًا جماعيًا يحافظ به الموارنة على إرث ثمين لهم ولغيرهم من الناس. فلبنان الذي يتمسّك به الموارنة مع إخوانهم اللبنانيّين هو في الحقيقة تجسيد لقيم ناضلوا معًا في التاريخ لأجل صونها ورفع شأنها، ألا وهي الأمانة لله مهما كلفتهم، وقيم الحريّة بكلّ أبعادها الروحيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وقيم العيش المشترك الكريم بين أبناء ديانتين كبيرتين في العالم، هما المسيحيّة والإسلام، وسلوك سبيل الآخر مهما كانت صعبة إذ أنّها تقضي بالخروج من الذات. هكذا فهم الموارنة لبنان، وهكذا أرادوه منذ البداية موئلاً للحريّة الدينيّة الكاملة وكل وجوه الحريّة، لجميع أبنائه، ومجتمعًا يكرّس المساواة في الحقوق والواجبات بين مواطنيه، بحيث أنّ هذا الوطن لن يبقى على صورته هذه إذا ما فقد لا سمح الله ميزة الحريّة فيه وميزة المواطنيّة المتساوية لكلّ أبنائه، والمشاركة الكاملة في الدولة والحكم في ما بينهم جميعًا. وإنّ الدستور الحاليّ، المعدّل وفقًا لاتّفاق الطائف، قد لقي قبولاً من الكنيسة المارونيّة، بوصفه مدخلاً إلى حياةٍ سلميّةٍ جديدة في البلاد، مع التزام لا يقبل الجدل بقيم البلاد الأساسيّة وبتفعيلها بشكل يتلاءم مع هويّتها التاريخيّة ومتطلّباتها.

 

  1. لقد أقام الموارنة في العالم مجموعات عيش مشترك جديدة، حملوا إليها قيم إيمانهم وحريّتهم، وأيديهم الممدودة للتعاون. غير أنّهم في إعادة إنتاج روحهم الجماعيّة، يخشى أن يضيّعوا شيئًا أساسيًّا إن هم ضيّعوا ارتباطهم بتاريخهم، أو إن فقدت هذه التجربة اللبنانيّة الأصليّة شيئًا من وهجها وقيمتها. إنّ نجاحات موارنة لبنان وموارنة العالم هي مترابطة حكمًا إذا ما أرادوا الحفاظ على هويّتهم المشتركة. من الضروريّ للموارنة أن يكتشفوا هذه الهويّة كي يكون التعاون فيما بينهم جميعًا أكثر فاعليّة في مواجهة المشكلات الملازمة لاستمراريّة هذه الهويّة.

 

  1. تبقى الحقيقة الأخيرة التي يجب التوقّف عندها، وهي أنّ لبنان يحتاج، للقيام بهذه المهمّة الإنسانيّة النبيلة، إلى عون الأشقّاء في العالم المشرقيّ العربيّ في سبيل مستقبلٍ أفضل لهم جميعًا. فمنذ قرون طويلة يتشارك المسيحيّون في علاقة يوميّة ومباشرة مع المسلمين في العالم العربيّ، مستفيدين من خبرة العيش المشترك، بإيجابيّاته وسلبيّاته، لبناء مستقبل مشترك، عملاً بوصيّة السيّد المسيح، وهي المحبّة الشاملة والعامّة، فنكون "الملح والنور" في مجتمعنا.

لقد ميّز الله منطقة الشرق الأوسط فجعل منها مساحة حواره مع البشريّة جمعاء. وهذا يلقي على المسيحيّين والمسلمين مسؤوليّة متبادلة، باعتبار أنّ الجميع جزء لا ينفصل عن حياة المجتمع، كاملو العضويّة في الجماعة الوطنيّة بكلّ ما لهذه الجماعة من حقوق وواجبات. على الجميع العمل على تخطّي الصعوبات الحاليّة، وتوفير شروط التلاقي والحوار البنّاء، فيبقى شرقنا العزيز أرضًا طيّبة لعبادة الله ولرقيّ الانسان. "وفي الواقع، إنّ مصيرًا واحدًا يربط المسيحيّين والمسلمين في لبنان وسائر بلدان المنطقة. وهم مدعوون لكي يبنوا معًا مستقبل عيش مشترك وتعاون، يهدف إلى تطوير شعوبهم تطويرًا إنسانيًّا وأخلاقيًّا؛ وعلاوة على ذلك، قد يساعد الحوار والتعاون بين مسيحييّ لبنان ومسلميه على تحقيق الخطوة ذاتها في بلدان أخرى"[11].

خـاتمـة

 

  1. إنّ قدر الموارنة وخيارهم هو أن يتمسّكوا برسالتهم التاريخيّة، وأن يكونوا عامل تواصل في هذا الشرق بين مكوّناته المتعدّدة وبينه وبين العالم، وقوة دفع نحو المستقبل في مواجهة التخلّف. فهم ليسوا أقليّة ترتبط بعلاقات جوار وتساكن مع الآخرين، وتبحث عن سبل تنظيم تعايشها مع الأكثريّة والمحافظة على خصوصيّتها. إنّهم جماعة لها دور فاعل من خلال تواصلها وتفاعلها مع كلّ الجماعات في رسم مستقبل مشترك لها ولهم، يقوم على المبادئ التي تؤمّن للإنسان حريّته وتحفظ كرامته وتوفّر له العيش الكريم.

 

  1. وإنّ أهمّ التحدّيات التي تواجه الموارنة، والمتّصلة بالشأن السياسيّ، تبقى بالعودة أوّلاً إلى هويّة الكنيسة المارونيّة، القائمة على قيم الحريّة، ونشر روح الوفاق، وسلوك طريق الحوار والتواصل والانفتاح والمحبّة، فنشهد للمسيح في عالم متغيّر من خلال الأفراد ومن خلال المؤسّسات الكنسيّة؛ وثانيًا، بتطوير مفهوم جديد للمواطنيّة مبنيّ على العقد الاجتماعيّ القائم على العيش المشترك في ظلّ دولة ديمقراطيّة تضمن مساواة الأفراد في الحقوق والواجبات كما تضمن احترام التنوّع الطائفيّ؛ وثالثًا، بأن يبقى لبنان مساحة للحوار الإسلاميّ المسيحيّ، في عالم يشهد انقسامات بليغة في هذا المجال، متضامنين مع العالم العربيّ لمواجهة مقولة صراع الحضارات التي تضع الإسلام والمسيحيّة بعضها في مواجهة البعض الآخر، فنرتفع إلى مستوى مسؤوليّاتنا وأصالتنا ورسالتنا في هذه المنطقة من العالم؛ ورابعًا، بالأخذ بعين الاعتبار عولمة الكنيسة المارونيّة للتشبّث بثوابتها وخياراتها الأساسيّة، المستمدّة من قيَمها الإنجيليّة، ومتابعة المنتشرين حفاظًا على هويّتهم الإيمانيّة والكنسيّة، وتعميقًا لانتمائهم إلى مجتمعاتهم المعاصرة، وتشجيعًا لالتزامهم في الحياة العامّة، بهدف بناء مجتمعات تعالج مشاكل الفقراء والمعدمين وقضايا العدل وحقوق الإنسان.

 

 

  1. 8. مذكّرة قدّمت الى رئيس مجلس الوزراء السيّد رفيق الحريري، في 6 آذار 1998.
  2. 9. "معًا أمام الله"، مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، ص 27.
  3. 1 المرجع ذاته، ص 59.
  4. 1 الإرشاد الرسوليّ "رجاء جديد للبنان"، العيش المشترك، عدد 92.
  5. "معًا أمام الله"، مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، ص 51، رقم 39.
  6. 1 "الحضور المسيحيّ في الشرق" ص 8 ، رقم 10.
  7. 1 المرجع ذاته، ص 9، رقم 11.
  8. 1 جمعيّة الأساقفة الفرنسيّين: من أجل ممارسة مسيحيّة للسياسة 1972، Pour une pratique chrétienne de la politique 1972
  9. 1 الإرشاد الرسوليّ "رجاء جديد للبنان"، العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، عدد 42.

 

  1. 1 الإرشاد الرسوليّ "رجاء جديد للبنان" الالتزام السياسيّ، عدد 112.
  2. 1 الإرشاد الرسوليّ "رجاء جديد للبنان" التضامن مع العالم العربيّ ـ عدد 93.