عندما وُقّع "اتّفاق القاهرة" في ستّينيّات القرن الماضي تصدّرت مقولة للراحل ريمون إده مفادها أنّه لا يصحّ أن يعرف مضمون الاتفاق سائق "أبو عمار" فيما لا يعرف اللبنانيون عنه شيئاً. وقد يصحّ ذلك اليوم على اللبنانيين ولهم في ما يتّصل بـ"اتفاق الترسيم البحري" مع إسرائيل.
انتصارات بالجملة
ما حصل ويحصل من "مفاوضات" وسكوت عن مضمون الاتفاق الذي يُفترض أن يكون من اختصاص واهتمام مجلس النواب بما هو ممثّل "الشعب اللبناني"، مُهين للّبنانيّين الغارقين أصلاً بإهانات لا تُحصى في حياتهم اليومية ببلدهم.
ولئن صار الاتفاق بـ"مربّعاته الأخيرة" من قبيل "تحصيل الحاصل"، يسع الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصر الله أن يحتفي بـ"انتصار" يُضاف إلى ما يصنّفه هو في خانة الانتصارات التي يُحقّقها حزبه وحده منفصلاً عن عموم اللبنانيين، ومنها انتصارات له وجماعته على سائر اللبنانيين.
عندما انسحبت إسرائيل في العام 2000 من الشريط الحدودي خطب السيّد حسن نصر الله "خطاب النصر" معطوفاً على التئام المجلس النيابي في النبطية. كان المراد آنذاك القول إنّ ذاك الانتصار ليس انتصاراً لفريق على فريق آخر، وليس انتصاراً لحزب على الأحزاب اللبنانية الأخرى، بل لجميع اللبنانيين.
حينذاك استبشر اللبنانيون خيراً بذاك الكلام. وعندما طالبت "قرنة شهوان" السيّد نصر الله باستكمال "انتصار التحرير" بـ"انتصار السيادة" والوقوف بوجه الجيش السوري، ودعوته إلى تنفيذ مندرجات اتفاق الطائف لجهة الانسحاب التدريجي وصولاً إلى الانسحاب النهائي بعد مرابطة هذه القوات زهاء عقودٍ ثلاثة، كان ردّ نصرالله بـالاصطفاف إلى جانب الجيش السوري واستخباراته وبـ "شكر" لا ينقطع للأسد الابن.
في العام 2006 عندما صمد حزب الله في وجه إسرائيل حوّل صموده ذاك إلى مشروع غلبة على الداخل اللبناني. وكان أن حاصر السراي الحكومي وأطلق هجمات "7 أيار" مُصدِّعاً اتفاق الطائف باستبداله بـ"اتفاق الدوحة" وأثلاثه المُعطّلة الغريبة عن أيّ شكل من أشكال الدستور.
إفراط في الأكل
من خلال "النجاح" المبدئي في إنجاز الترسيم البحري، فإنّ "حزب الله" يضمن فعليّاً وعمليّاً المصالح الاقتصادية والاستثمارية لإسرائيل ومن خلفها إيران تحت مظلّة أمميّة. هذا ما قالته المستويات السياسية والعسكرية والأمنيّة الإسرائيلية، وليس من تدبيج "عقول المؤامرة".
السؤال الآن، المطروح على اللبنانيين، وهو سؤال مشروع: هل يوظّف حزب الله هذا الانتصار نحو مزيد من الأرجحيّة بل السيطرة على الداخل اللبناني كما فعل في مرّات سابقة، أم تعلّم من سوابقه ومن الحكمة القائلة إنّ الكائنات تموت من الإفراط في الأكل وليس من ندرته؟
لبنان المتنوّع يرفض بطبيعة تكوينه السياسي ـ الاجتماعي ـ الثقافي غلبة فريق على فريق، مهما علا شأنه واشتدّ جبروته ومهما كانت عطاءاته.
حزب الله يعرف ذلك جيّداً. سبق له أن وقف، من بعد اليسار، في وجه "ادّعاء المارونية السياسية" أنّها اخترعت الدولة اللبنانية. وعاد ووقف في وجه الرئيس الشهيد رفيق الحريري على الرغم من عطاءاته الهائلة للبنان بدءاً بإخراجه من حربه الأهليّة عبر "اتفاق الطائف" وإدخاله في زمن السلم والمعاصرة.
بين إيران وإسرائيل
يحقّ اليوم للبنان أن يقف حتماً، بدون تسامح، مع من سيحاول حكماً، وعن غباء سياسيّ مسبق، توظيف ترسيم الحدود من أجل انضمام إيران إلى مائدة توزيع النفوذ النفطي في المنطقة.
إذا أراد حزب الله أن يوظّف الترسيم داخليّاً، لا بدّ من مجابهته بسدٍّ صلب، ليس لأنّ هناك طرفاً أقوى منه في الداخل اللبناني، بل بسبب التركيبة اللبنانية المتنوّعة التي لا تحتمل غلبة فريق على فريق آخر، والتي ينبغي الحفاظ عليها، ذلك أنّها الأمر الوحيد الباقي المتبقّي من بطاقة تعريف البلد.
"الانتصار" الذي حقّقه حزب الله سيكون انتصاراً حقيقياً إذا لم يوظّفه في الداخل اللبناني كمشروع غلبة، وسيتحوّل إلى فشل ذريع إذا كرّر الحزب عينه الأخطاء السابقة وحاول توظيفه في الداخل.
في الأحوال كلّها، فعل الحزب ما لم يكن في اتفاق 17 أيار. وطبيعة الوقائع تجعل من السيّد نصر الله متقدّماً على الرئيسين بشير الجميّل وشقيقه أمين. الاتفاق الذي وقّع عليه في 14 حزيران من العالم 1983 حوالى 72 نائباً من 99، بينهم كبار من وزن الرئيس صائب سلام وعروبته ولبنانيّته الصافيتين، لم يكن يلحظ تنسيقاً أو ضماناً استثمارياً اقتصاديّاً لإسرائيل. بل كان يلحظ خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان، والعودة إلى اتفاق الهدنة الموقّع عام 1949.
لكنّ ما يحصل في هذه اللحظات مع الحزب المُقاوم وبينه وبين إسرائيل، "مستظلّاً" الجمهورية اللبنانية، يتجاوز بمسافات سياسية ما حصل في 17 أيّار. الأرجح أنّ حزب الله في هذه الحال صار مطلوباً منه أدبيّاً أن يعتذر عن تخوين كلّ من وقّع "اتفاق 17 أيار".
وما هو مستحقّ للّبنانيّين كلّهم أن يعرفوا ماذا تضمّن هذا الاتفاق، وهل كان نصراً على الداخل و"تراجعاً" أمام إسرائيل؟
يحصل هذا فيما الاعجاب يلف وليد جنبلاط الذي قال أن مسيرات حزب الله"نفعت بالترسيم"، وصاحبه سمير جعجع "مُثنياً" على الحزب كونه "منطقياً بالتفاوض".
تخيّلوا لو أنّ حزباً آخر فعل ما فعله "حزب الله"، لكان عُدَّ ذلك نقصاً فادحاً في الوطنية واللبنانية، إن لم يكن تواطوءً مع العدو الصهيوني. اليوم يتغلب "فرح الإنجاز" على ما عداه مما صُمت الآذان ردحاً به عن "المقاومة" حتى آخر لبناني.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا