مرّ عام على انعقاد مؤتمر المسيحيين العرب في باريس؛ عامٌ أكّدت العديد من أحداثه في الشرق والغرب صوابية طرح المؤتمر الذي يمكن تلخيصه في نقطة رئيسية وهي الدعوة إلى "قيام الدولة المدنيّة الوطنية الحديثة المرتكزة على الفصل بين الدين والسياسة والتي تؤمّن حقوق الإنسان والمواطن الفرد".
بذلك ردّ المؤتمر الذي شارك فيه مسيحيون عرب من بلدان عدّة فضلاً عن شخصيات إسلامية لبنانية وعربية وممثلّين عن الخارجية الفرنسية، الممكلة العربية السعودية، الفاتيكان والأزهر، ردّ على أطروحتين تتصارعان في الواقع وتتقاطعان مفهومياً في استحضار الدين إلى المجال السياسي، وهما أطروحتا، الإسلام السياسي الذي يحاول مدّ نفوذه من الخليج إلى المحيط برعاية دولتين إقليميتين كبيرتين هما إيران وتركيا، وتحالف الأقلّيات المشرقي المنبع والذي قامت عليه أنظمة استبدادية لاسيّما في سوريا، وللمفارقة فهو يتظلّل الاسلام السياسي الإيراني.
أتى مؤتمر المسيحيين العرب كصوت مختلف وسط كلّ هذا الضجيج، كتيار ثالث يدعو إلى فصل الدين عن السياسة في إطار دولة مدنية تؤمّن حقوق الأفراد بوصفهم مواطنين لا رعايا جماعات دينية أو اثنية. وإذا كان هذا الطرح يستهدف أوّلاً بلداننا العربية فهو يلقى صدى عالمياً أيضاً لأنّه لا يمكن بأي شكل من الأشكال الآن الفصل بين الشرق والغرب بوصفهما مجالين سياسيين واقتصاديين واجتماعيين لا صلة بينهما، وها هي عمليات العنف باسم الدين التي استهدفت فرنسا في الآونة الأخيرة دليل واضح على استحالة هذا الفصل.
من هنا لم يكن اختيار مكان انعقاد المؤتمر وتوقيته صدفة. إنما التوقيت والمكان كانا مختارين بعناية؛ المكان لأنّ فرنسا هي أكثر الدول الغربية تعرضاً للإرهاب الإسلاموي وبالتالي هي معنية بأحوال الشرق وعوارضه، والتوقيت لأنّ أحد أهداف المؤتمر كانت إبراز صوت مسيحي عربي معارض لتيار تحالف الأقليات الذي استلهمه مؤتمر "اللقاء المشرقي" الذي انعقد في 13 و14 تشرين الثاني 2019 برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون.
والحال فإنّ "المسألة الشرقية" باتت مسألة عالمية لأنّ ارتدادات صراعات الشرق ومآزقه باتت تبلغ الغرب بسهولة لا بسبب القرب الجغرافي وحسب بل بسبب تداخل "المجتمعات" و"الحضارات" بفعل الهجرة التاريخية. والسؤال الأساسي في الغرب، لاسيمّا في فرنسا اليوم هو كيفية الحؤول دون تحوّل هذا التداخل إلى صراع وصدام بحسب نظرية هنتنكتون.
عند هذه النقطة بالذات تأخذ دعوة مؤتمر المسيحيين العرب لفصل الدين عن السياسة في منطقتنا معناها الأمثل، بالنظر إلى أنّ هذا الفصل ضرورة لا للبلدان العربية وحسب إنمّا للغرب أيضاً. لاسيّما إذا ما عاينا احوال البلدان التي تضخّمت فيها تيارات الإسلام السياسي، سواء تمكنّت من الوصول إلى الحكم كما حصل في تونس، أو هيمنت على القرار السياسي عبر الأحزاب والميليشيات المذهبية كما حصل وما يزال يحصل في لبنان والعراق.
لقد تحوّلت هذه البلدان كلّها ركاماً إذ انهار اقتصادها ودمّر نسيجها الاجتماعي وتهتّك حكم الدولة وقسّم أهلها بين أخيار وأشرار أو مؤمنين وكفّار أو بين وطنيين وعملاء وذلك بحسب معايير تيارات الاسلام السياسي، في استعادة لفرز الأنظمة الديكتاتورية المجتمع بين وطنيين وخونة.
وليس خفياً أنّ انهيار هذه البلدان شكّل وما يزال أرضية خصبة لنمو نزعات التطرّف والراديكالية الدينية التي تستثمرها تيارات الإسلام السياسي وفق اجندتها الخاصة، والشواهد على ذلك كثيرة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب.
ولعلّ الانهيار الاقتصادي الذي تشهده الدول التي تنمو فيها أو تحكمها هذه التيارات هو انهيار مقصود لأنّ الاقتصاد الرديف هو إحدى الأدوات الرئيسية للسيطرة على المجتمع والتحكّم به.
لذلك كلّه فإنّ ما دعا إليه مؤتمر المسيحيين العرب منذ عام في باريس يتبدّى اليوم أكثر إلحاحاً وضرورة في وقت تعمّ الفوضى والانهيار الاقتصادي معظم دول المشرق والمغرب، وفي حين يعود العنف الإسلاموي ليضرب في الغرب، وهو ما يطرح من جديد التلازم الحتمي بين المسألتين الشرقية والغربية، مع الأخذ في الاعتبار أنّ إعادة تعويم الأنطمة الاستبدادية ما كانت في يوم من الأيّام جواباً ناجعاً على هذه المعضلات!