نُسبتْ إلى الرئيس أمين الجميّل عبارة "أعطونا السلام وخذوا ما يُدهش العالم"، وهو وضعها في مُفتَتح مذكّراته "الرّئاسة المقاوِمة". لكنّ الرئيس، الذي أنشد السلام، كان عهده استكمالاً لمسلسل حروب دامية.
في 21 أيلول من عام 1982 اجتمع مجلس النواب في المدرسة الحربية في الفيّاضية، وانتخب في الدورة الأولى، بأكثرية 77 صوتاً من أصل 80 نائباً حضروا الجلسة، أمين الجميّل رئيساً للجمهورية بعد اغتيال شقيقه بشير. قيل مراراً إنّه أوّل رئيسٍ لبناني يخلف رئيسَيْن في أيّامٍ قليلة: الياس سركيس الذي أنهى ستَّ سنوات، وبشير الجميّل الذي اغتيل في 14 أيلول قبل أيّام من تسلّمه السلطة.
أمين الجميّل المولود في بكفيا في 22/1/1942، والنجل الأكبر للشيخ بيار الجميّل مؤسّس حزب الكتائب، هو المحامي منذ عام 1965، الذي لم يتردّد الكتائبي السابق والممانع الهوى كريم بقرادوني في وصفه بالمحظوظ: "ورث النيابة عن خاله موريس الجميّل، وورث الزعامة عن أبيه بيار، وورث أخيراً الرئاسة عن شقيقه القتيل، فخلفه وهو في الأربعين من العمر، فصار أصغر رئيس جمهورية يحكم".
لكنّ وراثة الرئاسة أو بشير كانت أقرب إلى غوص في الجحيم. دخل أمين قصر بعبدا في ظلّ ظروف سياسية وعسكرية صارت أكثر تعقيداً، وواقع يلفّه الحزن والحروب العبثيّة والاقتتال الدائم، ودولة باتت أشلاء: كانتونات حزبية وطائفية وبنية تحتية مدمّرة وعاصمة محترقة، وانقسام وخطوط تماس، وقوى متعدّدة الجنسيّات واحتلالات.
بلدٌ يزداد تمزّقاً
حاول أمين الاقتراب من الإدارة الأميركية والبلد تحت أنياب الجيران، الاحتلال الإسرائيلي الذي امتدّ حتى بيروت والجبل، والسوري الذي بقي في البقاع والشمال. ومثلما راهن بشير على إسرائيل، وتوهّم أنّه يستطيع أن يبني بلداً، راهن أمين على أمور أكثر تعقيداً، ولم يدرك أنّ حافظ الأسد الذي أهانته حرب 1982، ينتظر لحظة الانتقام ومصمّم عليه. ولم ينتبه إلى أنّ علي أكبر محتشمي، سفير إيران في دمشق، كان يؤسّس في البقاع والضاحية الجنوبية مجموعات مقاتلة ويغذّيها بالمال والسلاح والأيديولوجية، في بلد ممزّق بين احتلال إسرائيلي كارثيّ، ووجود سوري حاقد، ولجوء فلسطيني متفلّت ومسلّح، وتنظيمات متعدّدة الجنسيّات والولاءات والأهداف من الخطف إلى الإرهاب إلى الأحلام الثورية فالعمالة.
بدأ الجميّل التفاوض مع إسرائيل. وبعد 32 جولة تفاوض، بمواكبة من بعض الصحافيين الذين تحوّلوا إلى الممانعة وجنس الملائكة لاحقاً، وبتدخّل مباشر من وزير الخارجيّة الأميركيّ جورج شولتز، أمكن التوصّل إلى اتّفاق 17 أيّار 1983. انطوى الاتفاق على ثغرات قاتلة: ربط تنفيذ انسحاب إسرائيل بالانسحاب السوريّ، وهذا ما لم يكن الجميّل قادراً على تحمّله أو تنفيذه، ويقول عنه الجميّل في مذكّراته: "كان يفترَض أن يكون الحدث الأساسي لعهدي". ويذكر أنّ لبنان كان يسعى من وراء الاتفاق إلى خروج القوات الإسرائيلية التي دخلت بعد غزو عام 1982. لكنّ إسرائيل حاولت ربط انسحابها بانسحاب القوات السورية، الأمر الذي لم يوافق عليه الجميّل وقال للأميركيين: "مفاوضاتنا هي لانسحاب الجيش الإسرائيلي، أمّا مشكلة الجيش السوري فنحلّها بالتعاون مع الدول العربية". هذا عدا عن أنّ النظام السوري كان ينتظر عند المنعطف، فهو تلقائياً سيكون ضدّ أيّ اتفاق مع إسرائيل.
ما إن وُقّع اتّفاق 17 أيار حتّى سمّاه الرئيس السوري حافظ الأسد مع قسم وازن من اللبنانيين "اتّفاق العار". وعلى الرغم من أنّ الجميّل كان على قناعة بأنّ اتفاق 17 أيار وُلد ميتاً، وامتنع عن توقيعه والعمل على نشره، فقد جعلته سوريا "قميص عثمان"، واتّخذت منه كلّ الأعذار من أجل إطلاق رصاصة الرحمة على لبنان، سيادةً ونظاماً. وقد عبّر الجميّل بوضوح عمّا آلت إليه الأمور قائلاً عن دمشق: "لم تكتفِ بتأليب حلفائها ضدّنا، بل أعلنت الحرب صراحة علينا، مهدّدة على نحو واضح جليّ. اندفعت في حملة ترهيب في كلّ الاتجاهات ضدّ القادة الذين يتجرّأون على معارضتها".
في أيلول من عام 1982 عندما قرّرت الحكومة الإسرائيلية سحب جيشها إلى ما قبل خطّ نهر الأوّلي قرب صيدا، وهي كانت تملك صاعق التفجير في أيّ لحظة، اشتعلت الحرب الميدانية بين الدروز والقوات اللبنانية. دعم الجيش السوري والقوى الفلسطينية المؤيّدة لدمشق ميليشيا الحزب التقدّمي وحلفاءه في حربهم مع "القوات اللبنانية"، فاندحرت هذه الأخيرة، وهُجّرت عشرات البلدات والقرى المسيحية، وانسحبت "القوات" إلى بلدة دير القمر في الشوف. برزت أولى عمليّات تنظيم حزب الله، الذي لم يكن اتّخذ هذا الاسم بعد ولا أعلن عن نفسه، من خلال تفجير مقرَّيْ قوات "المارينز" والمظليّين الفرنسيين قرب مطار بيروت في 23 تشرين الأول 1983، فقُتل مئات من الجنود الأميركيين والفرنسيين، وانسحبت قوّاتهما من لبنان. صار أمين الجميّل وحيداً بين مطرقة الإسرائيلي وسندان النظام السوري، وسط حرب باردة وصراع محاور وصراع عربي - إسرائيلي وأحقاد أهليّة لبنانية مدمّرة.
سرعان ما قام ما يُسمّى انتفاضة 6 شباط 1984، فسيطرت ميليشيا حركة أمل الشيعية برئاسة نبيه برّي على الضاحية الجنوبية وبيروت الغربية. وقد انعكست هذه الحروب المتنقّلة والطائفية على الجيش اللبناني وتركيبته، وعلى الحياة العامّة، وما زالت آثار هذه المرحلة تحفر عميقاً حتى اليوم في التركيبة اللبنانية، سواء على صعيد السلطة السياسية، أو على الصعيد الاجتماعي.
في 5 آذار 1984 أُسقطت اتّفاقيّة 17 أيّار تمهيداً لانعقاد مؤتمر لوزان لـ "الحوار الوطنيّ"، بعدما سبقه في 1983 مؤتمر في جنيف. اعتبر الأسد أنّ من ساهم في "إسقاط" الاتفاق خطٌّ أحمر في مركز السلطة الجديدة، حتى من أمثال نجاح واكيم وزاهر الخطيب. استسلم الجميّل للأسد، وسيطرت ميليشيات الطوائف على مناطقها، وبقيت مناطق "العرين المسيحي" في يد الجيش المسيحي الرسمي والقوات اللبنانية.
في الأثناء عاشت بيروت موجة جديدة من الأحداث الصادمة: اغتيالات ميدانية للشيوعيين ولوجوه بارزة في الطائفة السنّيّة (صبحي الصالح، محمد شقير، وناظم القادري). كانت الحروب المتنقّلة برعاية غازي كنعان وإدارته واستطلاعه. وصار لبنان عنواناً لخطف الأجانب والفرز الديمغرافي. في ظلّ سوداوية الوقائع وكارثيّتها اغتيل الرئيس رشيد كرامي، واشتقّت الليرة اللبنانية طريق انهيارها. أمّا الفساد الفاقع فكان في فضائح طائرات "البوما"، والنفايات السامّة.
تمزّق المسيحيّين
كان عهد أمين الجميّل مرحلةً لانتقام الأسد من خصومه اللبنانيين والفلسطينيين على حدّ سواء، وكذلك لمناوشة الأميركيين والفرنسيين والحلف الأطلسي عموماً. وُفِّقَ الأسد في كلّ ما أراده جرّاء تقاطعات مصلحيّة بين سوريا وإيران من جهة، وسوريا والاتحاد السوفييتي من جهة أخرى. لم يواجه الجميّل مشكلة مع السوريين وحدهم، بل كانت مشكلته الكبرى داخل الطائفة المارونية نفسها. فأمين السياسي "المعتدل"، الذي لا يشبه شقيقه بشير، كان على صراع مع ميليشيا القوات اللبنانية التي أراد إعادتها إلى حزب الكتائب الذي انبثقت منه. لذا حصلت في 12 آذار 1985 انتفاضة قوّاتية ضدّ العهد أكّدت استقلالية "القوات"، وكانت بقيادة ثلاثية: سمير جعجع وإيلي حبيقة وكريم بقرادوني. لكن في ذلك الوقت كان يدور صراع داخل القوات نفسها، المكوّنة من أجنحة ورؤوس حامية. فعندما فتح حبيقة خطّ تواصل مع السوريين واتّجه للتوقيع على "الاتفاق الثلاثي" مع وليد جنبلاط ونبيه برّي في دمشق وبرعاية سورية، في تجاوز واضح لدور السلطة الشرعية وللرئيس الجميّل الذي كان بدأ محادثات مع السوريين، حصلت انتفاضة ثانية بقيادة سمير جعجع ضدّ إيلي حبيقة، فوقف الجميّل إلى جانب جعجع.
بمساعدة من الجيش اللبناني بقيادة ميشال عون طُرد حبيقة وجماعته على نحو دموي من المناطق المسيحية، فلجأ إلى الأسد الذي أقطعه مدينة زحلة. قاطع رئيس الحكومة رشيد كرامي رئيس الجمهورية وتحوّلت الحكومة إلى ما يشبه وزارات مستقلّة، بينما كان النظام السوري يعود تدريجاً إلى بيروت. حصل هذا فيما كانت "المارونية السياسية" تخسر ركنين أساسيَّين. ففي عام 1984 تُوفّي بيار الجميّل، وتبعه في 1987 كميل شمعون.
خراب بيروت وعودة الأسد
في شباط 1987 عاد الجيش السوري إلى بيروت. مهّد للعودة تكليف حركة أمل بالحرب على المخيّمات الفلسطينية، ثمّ انفجار حرب شوارع في بيروت بين الحزب التقدّمي الدرزي والحزب الشيوعي من جهة، وحركة أمل من جهة أخرى. كان هدف العودة الإمساك بعنق الجمهورية، خصوصاً أنّ موعد الانتخابات الرئاسية كان في أيلول 1988. مع هذه العودة العسكرية والاستخباراتية لمع اسما مقرَّين غير رسميَّين، كانا عنواناً للإدارة السورية، وهما: البوريفاج وعنجر.
هذا الاستحكام والتحكّم السوريّان كشف عنهما وزير خارجية سوريا فاروق الشرع لنظيره اللبناني إيلي سالم. أعلن مطامع سوريا بفجاجة سنة 1987 قائلاً له: "ماذا تعني السيادة؟ على لبنان أن يعهد بها إلى سوريا. نريد أن نعقد تحالفاً استراتيجياً طويل الأمد. تعلمون أنّ الوطن اللبناني لم يكن له يوماً وجود فعليّ، بل هو من مخلَّفات الاستعمار التي حان الوقت لاستئصالها". وهو كان يذكّر بما قاله نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام في عام 1975 من أنّ "لبنان جزء من سوريا وسنستعيده".
لم يُفلح الجميّل في إعادة تصحيح العلاقة مع الأسد، وهو لم يكن يريده إلا تابعاً أو يتلقّى أوامره من دمشق، ولم يغفر الأسد للقادة المسيحيين (ومنهم الجميّل) الذين أسقطوا "الاتفاق الثلاثي" الذي كان برعايته وحضوره. ظهر التوجّه السوري مباشرة عندما رشّح الأسد الرئيس السابق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، بعدما كان رئيس مجلس النواب حسين الحسيني حدّد موعداً لجلسة الانتخاب في 18 آب 1988. التقى جعجع وعون على معارضة هذا الترشيح، فلم تنعقد الجلسة بسبب عدم اكتمال النصاب النيابي المطلوب.
حين أرسلت الولايات المتحدة مبعوثها ريتشارد مورفي إلى دمشق، للبحث في الملفّ الرئاسي، نُسب إلى دمشق قولها: "مخايل الضاهر أو الفوضى". لكنّ مورفي نفى عندما استضافه "مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية" في 12 حزيران 2013، أن يكون قال هذه العبارة. إلا أنّ ما قيل حينذاك، واقعاً أو منسوباً إليه، بات عنواناً رئيسياً لكلّ استحقاق ومرشّح يصطدم بمعارضة.
رفضت القيادات المسيحية هذه المعادلة التي تحوّلت شعاراً لطرق سياسة الإكراه التي يتّبعها النظام السوري وغيره، وزار الجميّل دمشق في 21 أيلول، فالتقى الأسد للبحث في الموضوع الرئاسي. لكن في لبنان التقى جعجع وعون على رفض ما يمكن أن ينتج عن لقاء الرئيسين. وكان تعليق الأسد لاحقاً بأنّ الجميّل لم يشتغل كفاية من أجل الرئاسة.
في 22 أيلول 1988 أصدر الجميّل مرسوم تشكيل الحكومة العسكرية برئاسة قائد الجيش ميشال عون لتحلّ محلّ حكومة سليم الحصّ القائمة. أثار هذا القرار غضب قوات سمير جعجع. لكنّ الحكومة العونيّة التي ضمّت 6 عسكريّين، رفض المسلمون الثلاثة منهم المشاركة فيها.
مع عون بدأت مسيرة جديدة من الخراب والدمار: حرب ضدّ الجيش السوري وحرب ضدّ القوات اللبنانية وغاية الحربين الوحيدة البقاء في القصر الجمهوري وحيازة منصب رئاسة الجمهورية. لم يخرج لبنان من هذه الدوّامة إلا بطرد عون من بعبدا وسيطرة الجيش السوري على لبنان كلّه، بعد إبرام النواب اللبنانيين اتفاق الطائف في 22 تشرين الأول 1989.
غداً: رينيه معوّض: الشهابيّ العتيق وشهيد الطائف الأوّل.
المصادر:
- أمين الجميّل، "الرّئاسة المقاوِمة"، منشورات "بيت المستقبل".
- جورج غانم، نصّ أُلقي في ندوة "بيت المستقبل" في بكفيّا.
- كريم بقرادوني، "السلام المفقود".
*نُشر على صفحة أساس-ميديا