من سخرية الأقدار أن تحلّ الذكرى المئوية الأولى للبنان الكبير في ظلّ سلطة سياسيّة تحمل مشروعاً سياسياً مناقضاً لفكرة هذا اللبنان. تلك الفكرة التي طوّرت أو وصلت إلى خلاصتها في "وثيقة الوفاق الوطني"، من حيث محاولة جمعها بين مبدأين: "التشاركية الطائفية" بحسب تعبير ميشال شيحا، والمواطنة التي نصّت عليها الفقرة (ج) من مقدّمة الدستور لجهة تأكيدها "المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل"، ثمّ المادة السابعة منه التي تنصّ على أنّ "كلّ اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنيّة والسياسيّة ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دونما فرق بينهم".
قبل قرن قال المفوّض السامي الفرنسي الجنرال هنري غورو في كلمته خلال إعلانه لبنان دولة الكبير في الأول من أيلول 1920، إنّ "لبنان الكبير جعل لفائدة الجميع، وليس ضدّ أحد". كان قصد الجنرال الفرنسي من جملته تلك طمأنة المسلمين اللبنانيين، خصوصاً السنّة، الذين رفضوا "لبنان الكبير" بعدما أيدوا الدولة العربية بقيادة الأمير فيصل بن شريف مكّة.
والحال فقد كان التحدّي الأساسي أمام نحاج لبنان الكبير يكمن في جعل المسلمين ينضمّون إليه. وقد حصل ذلك تدريجاً بعدما تركزّت حدود دول المشرق وخفتت التيّارات العروبية الجدّية. كذلك فقد أدى تبلور نظام المصلحة الإقتصادية للوحدات البشرية والجغرافية اللبنانية، كما وضع أسس الإدارة اللبنانية الجديدة، إلى إندماج الشريحة المعترضة في الدولة الوليدة.
هذا مسار أوصل في لحظة تاريخية معيّنة إلى الاستقلال على قاعدة "الميثاق الوطني" الذي أضفى شرعية على الكيان اللبناني، إذ طوى تشكيك الملسمين به فتخلوا عن نزعة العروبة الجغرافية، كما أكّد في المقابل ثقة المسيحيين بـ "لبنانية" المسلمين ولذلك أسقطوا مطلب الحماية الأجنبية. ولعلّ دينامية التوازن الطائفي في النظام السياسي التي جسّدها الميثاق ستنتقل إلى قلب الدولة لتصبح وظيفتها الأساسية إدارة هذا التوازن. وهو ما جعلها عاجزة عن التمايز عن البنى الاجتماعية الطائفية وعن تجسيد المعنى الفعلي لـ "المصلحة العامة"، وقد ظهر هذا العَطب أكثر ما ظهر خلال الحقبة الشهابية بعدما اصطدم الإصلاح بتركيبتي المجتمع والدولة.
ولذلك فقد كان هذا الرهان السياسي للميثاق، والصيغة المنبثقة عنه، رهاناً محفوفاً بالمخاطر، لسببين مترابطين: الأوّل أنّ فكرة الدولة – الأمّة الغربية ما تأصّلت في لبنان ولا في المشرق عموماً، إذ اصطدمت بالموروثات السياسية والاجتماعية التي بقيت تحنّ إلى نقيضين: الحالة الأمبراطورية وحالة الخصوصية الطائفية. أمّا السبب الثاني فسياسي بحت وتحركّه ديناميتان متصلتين: الأولى أنّ المسلمين اللبنانيين شعروا بالغبن السياسي في ظلّ النظام الذي أعطي أفضلية سياسيّة واقتصادية للمسيحيين وخصوصاً الموارنة، والثانية أنّ السياسات الإقليمية خصوصاً بعد قيام دولة إسرائيل أعطت الانقسام اللبناني بعداً خارجياً ما جعله تدريجاً ساحة صراع دولية/إقليمية أدّت من بين أسباب أخرى إلى وقوع الحرب الأهلية في العام 1975.
لكن وفي موازاة إشكالية المشاركة السياسيّة للطوائف في النظام، كانت ديناميات الفردانية (individualisme)، وعلى نحو مفارق، في سيرورة متواصلة في ظلّ النمو الاقتصادي كما التعليم المدرسي والجامعي الذي بات يطال شرائح أوسع من الشعب. كذلك فقد أدّى النزوح الكثيف نحو المدن وخصوصاً بيروت إلى الحدّ من النزعة العصبية العائلية والطائفية للنظام (السيستام). وهذا كلّه ترافق مع رسوخ ولو نسبّي للحريات، سواء الإقتصادية وقد كفلها الدستور بنصّه على أنّ "النظام الإقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة"، أو السياسية في وقت كانت الأنظمة العربية تنحو اكثر فأكثر إلى التضييق عليها ما جعل بيروت ملجأ معارضي تلك الأنظمة.
إلّا أنّ ذلك لم يمنع من وقوع الحرب بأسبابها الداخلية المتصلّة بشكوى المسلمين من صيغة الحكم واللاعدالة الاجتماعية، خصوصاً بعد سقوط التجربة الشهابية، مقابل تمسكّ المسيحيين بـ "صلاحياتهم" في النظام؛ وتلك الخارجية المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي في إطار الحرب الباردة، وهو ما جعل العامل الفلسطيني في لبنان عامل تفجير مباشر وإضافي للصراع.
وفي المحصلة فقد كان وقوع الحرب بمثابة إعلان لفشل صيغة "التشاركية الطائفية"، أو بتعبير آخر، لغلبة هذا الوجه من النظام على الوجه الموازي له، أي المواطنة، وإلّا لكانت مسارات الفردانية الآخذة بالتفتّح قد عزّزت مناعة المجتمع أمام العنف المُقبل عليه.
ثمّ كان اتفاق الطائف الذي حسم مسألة الهوية، وأعاد الإعتبار للتعايش المُكلِف بين وجهي النظام: التشاركية الطائفية إذ أعاد ترتيب التقاسم الطائفي للسلطة وفق قواعد أكثر توازناً، والمواطنة إذ أطلق دينامية كان يفترض أن تضع لبنان على سكّة التحوّل نحو ما يصطلح على تسميته الدولة المدنية.
لكن شيئاً من ذلك لم يتمّ، بل على العكس فقد سارت الممارسة السياسيّة إبّان الوصاية السورية، والأهمّ بعدها، بخلاف مضمون الطائف وسيرورته الإنتقالية من الطور الطائفي للنظام إلى طوره اللاطائفي.
فإذا كانت مصلحة النظام السوري في اللعب على التناقضات الطائفية قد شكّلت حائلاً دون السير بالاصلاح الذي افترضه "الطائف"، فإنّ اغتيال رفيق الحريري وضع لبنان على فالق الصراع المذهبي السنّي – الشيعي في المنطقة. وهو ما جعل النظام السياسي يسير إلى الخلف عوض التقدّم إلى الأمام وفق المخطط له في "وثيقة الوفاق الوطني"، وصولاً إلى ما يسمّى بـ "القانون الأرثوذكسي" الذي كرسّ رغبة واضعيه في إسقاط "الطائف" إلى الوراء، أي حصره بحقله الطائفي وفق تأويل راديكالي، وإسقاط منحاه الإصلاحي.
والأنكى أنّ هؤلاء أنفسهم يبشّرون بالدولة المدنية، وذلك بعدما جعلوا الممارسة السياسيّة طائفية خالصة، مدفوعة ومحفّزة بالطبيعة المذهبية لـ "حزب الله" على نحو يثير رغبة أحزاب الطوائف الأخرى بالتماثل به.
والأخطر أنّ التأويل الطائفي للنظام يحصل في وقت تتنازع المجتمع نزعتان، نزعة الانعتاق من الارتباط السياسي بالطوائف كما عبّرت عنها انتفاضة "17 تشرين"، ونزعة الالتصاق أكثر بها، خصوصاً في ظلّ الأزمة الاقتصادية التي تتيح للأحزاب دور "الرعاية الاجتماعية". والأهمّ أنّ هذه الأزمة فتحت شهّيات سياسية وطائفية لإحداث تحوّلات في النموذج الاقتصادي الحرّ والذي كان سبباً من أسباب تبلور مسارات فردانية في المجتمع طيلة العقود الماضية، وإن على نحو إشكالي.
في المحصّلة، فإذا كان مبدأ التقاسم الطائفي لا يعطي شرعيّة لدولة تدّعي الديموقراطية، فإنّ مشكلة المواطنة في لبنان لا تكمن في انتفاء وجود الفرد وإنما بعدم الاعتراف السياسي به، وفق تعبير نوّاف سلام. والحال فإنّ السلطة الحاكمة تحرص في كلّ ممارستها السياسية على عدم الاعتراف السياسي بالمواطن، ولكنّها تطالب في الوقت نفسه بالدولة المدنية؟!