»عامل كَأهليكَ الغريبَ الوفيّْ واقطعْ مِن الأهلِ الَّذي لا يَفي وعفْ زلالاً لَيسَ فيهِ الشِفا واشربْ زُعاف السُّمِ لو تَشتَفي أحسِن إلى الأعداءِ والأصدقاءِ فإنَّما أُنسُ القُلوبِ الصَفاء واغفرْ لأصحابكَ زلَّاتِهم وسامحِ الأعداءَ تمحُ العداءْ عاشِر مِن الناسِ كبار العقولْ وجانبْ الجُهالَ أهلَ الفُضولْ واشربْ نَقيعَ السُّمِ مِن عَاقلْ واسكبْ على الأرضِ دَواءَ الجَهولْ نلبسُ بَينَ الناسِ ثوبَ الرِّياء ونَحنُ في قَبضةِ كَفِ القَضاءْ وكمْ سَعينا نَرتجي مَهرباً فكانَ مَسعانا جَميعاً هَباءْ إن تُفصَل القَطرةُ من بحرها ففي مداه مُنتهى أمرها» (رباعيات الخيام ـ ترجمة أحمد رامي)
لست أدري لِمَ أعود دائمًا إلى ترجمة أحمد رامي العبقرية لرباعيات عمر الخيام للحكمة وللتصوف والانفلات من كل قيد معًا، فحاجة الحكمة إلى بعض الانفلات حتمي كما التصوف والابتعاد، ولو لفترة عن العالم، لنرى الأمور بفكر منفتح على الاحتمالات، غير مأسور بالبديهيات. من هنا أيضًا الانفتاح على أفكار عليّ شريعتي الفارسي الحكيم، للبحث عن مخارج من النفق المظلم.
مع انّ أفكار الدكتور «علي محمد تقي شريعتي» وكتاباته ونضالاته كانت الملهم الاول للثورة الايرانية، إلى جانب الشخصية الكاريزمية للإمام الخميني، فإنّ استشهاده عام 1977 بطريقة غامضة، حرم ايران من دور مركزي كان يجب ان يلعبه في إنشاء الحكم الفتي، وربما إخراجه من سلطة الملالي التي فرضت نفسها بعد سنة من الحكم المدني الذي انتهى عام 1980 بانقلاب وضع الحكم في إيران تحت السلطة المطلقة للولي الفقيه.
علي شريعتي، المفكر الشيعي والمقتنع بتشيّعه، ولِدَ قرب «مشهد» عام 1933 وتخرّج في كلية الآداب فيها عام 1955، وحصل من فرنسا على دكتوراه في تاريخ الإسلام وعلم الاجتماع. إنضوى في شبابه في حركة «مصدّق» اليسارية الطابع، ومحمد مصدّق كان رئيس وزراء إيران، الذي أطاح الشاه «محمد رضا بهلوي»، قبل أن تعيد ثورة مضادة، نسجتها المخابرات الأميركية ـ البريطانية، الحكم البهلوي إلى العرش.
يعدّ عليّ شريعتي بمثابة فيلسوف الثورة الإسلامية في إيران، وقد لقّب بـ «المعلم». لقد كان واحدًا من القلائل الذين تجرّدوا عن التمذهب والتشدّد، وسعى إلى نوع من الوحدة الإسلامية. هذه الوحدة كان قد رسم معالمها في كتاب «التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي». فبعد تجربته الفرنسية، حيث نسج علاقات صداقة وحوار مع مفكّري «جبهة التحرير الجزائرية» ومع رواد الفكر الوجودي مثل «فرانتز فانون» و»جان بول سارتر»، عاد إلى إيران ليؤسس «حسينية الإرشاد»، وهي المعهد الذي ذهب فيه إلى مهاجمة تعصّب رجال الدين الشيعة ضدّ السنّة، وحاول وضع أفكار لبناء دولة إسلامية غير مذهبية، من خلال العودة الى «التشيّع العلوي والتسنّن المحمدي» في مواجهة «التشيّع الصفوي والتسنّن الأموي» كما وصفهما.
يقول شريعتي إنّ الحركة الصفوية ورجال الدين المرتبطين بها، عملوا على ترسيخ التعصّب المذهبي، من خلال دمجه بالقومية الفارسية. ويتهم «المعلّم» الصفويين بتأجيج الكراهية بين المسلمين، من خلال إصرار ملاليهم على الترويج لشتم الصحابة وإجبار الناس على مجاراتهم، ووصف هذه الممارسات بـ»الوحشية» و»الإرهابية». قال إنّ هذا النوع من التشيّع هو «تشيّع الجهل والفرقة والبدعة، وتشيّع المدح والثناء للسلطات، وتشيّع الجمود والركود بتأدية طقوس عبادية ومذهبية دخيلة على التشيّع الأصيل». كما أنّه صرّح بأنّ «كل رموز التشيّع الموجود في إيران وشعائره، هي رموز مسيحية ومظاهر مسيحية قديمة وبائدة، أدخلها الصفويون على يد طلائع الفكر الغربي، لكي يفصلوا إيران عن الإسلام السنّي، مذهب الدولة العثمانية عدوة الدولة الصفوية التقليدية. كما انّ الصفويين تحالفوا مع الأوروبيين ضد العثمانيين، مما أودى بإيران وبالعثمانيين معًا في نهاية المطاف عن طريق إضعافهما بنزاعهما بعضهم مع بعض. كما أنّه يقول: «لو خرجت كل الطقوس الدخيلة على التشيّع فلن يبقى هناك أي خلاف يُذكر بين المذاهب».
ويوصي علي شريعتي بالعودة إلى الذات الإسلامية، وطرح إسلام عالمي أممي عابر للقوميات والمذاهب، لأنّه فكر رسالي عن طريق البدء بإسكات الخلافات المذهبية.
كما أنّه في كتابه «الاستحمار» انتقد نفاق كثيرين من رجال الدين الذين سمّاهم «فقهاء السلطان» في تزييف الوعي الشعبي وإعادة تشكيله على أساس مصالحهم.
وشرح «المعلم» في كثير من المواقع الفارق بين تقية التشيّع العلوي، التي تتحفّظ عن الإجهار بما يخلف بين المذاهب تجنّبًا للفتنة، وبين تقية التشيّع الصفوي الذي يُستخدم كوسيلة للغش والخداع، في حين يجاهر بالسباب والشتائم للصحابة، إمعانًا في تأجيج الخلاف بين المسلمين.
لا شك مما تقدّم، أنّ أفكار علي شريعتي كانت تهدف إلى هدم مؤسسة عمرها أكثر من 450 سنة، بُنيت عليها مصالح متشعبة وعادات وطقوس أصبحت في حكم المقدّس، مما وضع القسم الأكبر من رجال الدين المعاصرين في إيران في مواجهة معه. لكن عمق أفكاره، وبعض الأحيان تشتتها وصعوبة فهمها، جعلتها غير قابلة للصرف إلّا في أوساط النخب، مما سهّل على رجال الدين اجتياحها بسرعة، بعد سنة من انتصار الثورة الإسلامية التي كان شريعتي معلمها.
الانتقام الصفوي الخميني من عليّ شريعتي أتى سريعًا. في سنة 1977 إغتيل شريعتي في ظروف غامضة، فكان من الطبيعي اتهام جهاز «السافاك» التابع لحكم الشاه بالاغتيال، لكن الشبهة عادت لتتجّه لاحقًا نحو أتباع الخميني المستنفرين ضدّ أفكاره ودعوته، ولعلمهم بخطورتها على الديكتاتورية المنوي فرضها في إيران استنادًا لسلطة الملالي. لم تمض سنة على إقامة الحكومة المدنية الانتقالية بعد الثورة الإيرانية، حتى تمّ إقصاء كل حلفاء الخميني السابقين، من غير رجال الدين، عن مواقع السلطة. تمّت مركزة كل السلطات في شخصية «المرشد» الذي تحول بسرعة إلى موقع «الوكالة عن المهدي المنتظر»، معيدًا لقب «الولي الفقيه» إلى التداول. ورغم توجّه مؤقت يدعو إلى الوحدة الإسلامية العابرة للمذاهب، بقيت الأدبيات الصفوية سائدة، ومعها الطقوس والعادات والمؤسسات الموروثة منذ أربعة قرون ونصف قرن هي المهيمنة على الحياة العامة، ولكن الفارق هو انّه بدل أن يكون رجال الدين في خدمة السلطات، أصبحت السلطة في يد واحد من رجال الدين، وهو الذي ما لبث أن أعلن نفسه إمامًا معصومًا بسلطة مطلقة في أمور الدين والدنيا.
وقد تمّت حماية وتقوية موقع الولي الفقيه من خلال شبكة من المؤسسات، هيمنت على مختلف الأنشطة الوطنية من أمن وجيش ومخابرات واقتصاد مثل «مجمّع تشخيص مصلحة النظام» إلى «الحرس الثوري» الذي يدير «مؤسسة الشهيد» و»جهاد البناء» و»التعبئة العامة» و»مجلس الأمن القومي» و»الحوزات الدينية» بالإضافة إلى ميليشيا «الباسدران» التي تعدّ بالملايين وتنتشر في مختلف مواقع المجتمع الإيراني.
بعد فشل مبدأ تصدير الثورة العابرة للمذاهب الإسلامية، عاد النظام إلى إحياء العصبية المذهبية خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، فعادت الأفكار الشعوبية الصفوية للهيمنة على الفكر القومي الإيراني، مغلّفة، كما في العهد الصفوي، بمنطق القداسة المتمثل في الوكالة عن المهدي. وهكذا تكون الصفوية قد أتمت انتقامها من افكارعليّ شريعتي من خلال الخمينية، وقضت على المحاولات المتجددة للعودة إلى الوحدة الإسلامية على أساس «التسنن المحمدي والتشيّع العلوي»، من خلال إسلام حضاري مطعّم بأفكار التنوير الحديثة التي لا تعتمد الفرض في الحياة الاجتماعية والشخصية، لكونها تفترض أنّ الحرية هي باب الإيمان الصحيح لا المظاهر.
في ظلّ ما يحدث اليوم في إيران، أرى أنّ سلطة الملالي وقواتها المسلحة ستستعمل كل وسائل العنف الممكنة قبل التخلّي عن تسلّطها المالي والاقتصادي والسياسي على إيران. وستطرح الثورة الحالية خيارات عدة رجعية، كالعودة إلى الشاهنشاهية، أو ليبرالية على الطريقة الغربية، لكن السبيل الأفضل قد يكون العودة إلى فكر على شريعتي لإنقاذ، ليس فقط إيران، بل المنطقة بأجمعها، من تلاعب القوى الكبرى التي تستثمر في ما يحصل على مدى نصف قرن من النزاع القائم.
* نُشر على موقع الجمهورية