دأب الفريق الممسك اليوم بالسلطة، والغارق الى أذنيه في ملفات النهب والفساد، على تكرار معزوفة "الثلاثين سنة الماضية" اي الحقبة التي ترأس فيها رفيق الحريري الحكومة، من اجل تبرير فشله وعجزه واستنزافه خزينة الدولة، ولتحميل المسؤولية لما يسميه البعض "الحريرية السياسية" التي حكمت البلد منذ بداية التسعينيات وأفلسته وأوصلته الى حافة الانهيار. وهذا يعني ان الحريري قد حكم يومها بمفرده، ولم يكن له شريك في ظل نظام الوصاية السورية وأذرعها، وزعماء الميليشيات الصاعدة من المتاريس الى جنة السلطة لاستكمال نهب ما تبقى. كما يعني ايضا ان الاكثرية في مجلس الوزراء لم تكن للفريق السوري-الميليشياوي علما ان ما كان يحظى به الحريري لم يكن يتعدى أربعة او خمسة وزراء مقربين من أصل ثلاثين او ثمانية وعشرين وزيرا، كما ان هذه المعادلة ذاتها لم تستمر بعد اغتياله في 2005 بدخول "حزب الله" جنة السلطة وتبعه في عام 2008 التيار العوني. وهذان الطرفان اللذين يستأثران اليوم بالسلطة أصبح لهما في الحكم نحو خمسة عشرة سنة اي نصف الثلاثين سنة موضع الاتهام، ويمسكان بأهم الوزارات التي حولها العونيون الى مغارة علي بابا.
ومع ذلك، دعونا نستعرض هذه "الثلاثين سنة" الممتدة من 1993 حتى 2016 (أي فعليا 23 سنة) لنرى ما اذا كان الحريري قد مكث فعلا كرئيس للحكومة طيلة هذه الحقبة الطويلة من الزمن، وما اذا كان هو الحاكم والناهب والفاسد الى هذه الدرجة! فقد ترأس الحكومة الاولى في 31 تشرين الأول 1992 واستمر عبر ثلاث حكومات لغاية عام 1998، اي ست سنوات. وقد اختلف يومها مع الرئيس اميل لحود الذي فرضه حافظ الأسد ك"مطهر" للحياة السياسية من الفساد، والذي أعلن في خطاب القسم ان "يد السارق ستقطع" واذ بالفساد والصفقات تستشري في عهده. اعتذر الحريري يومها عن تشكيل الحكومة احتجاجا على مخالفة لحود الدستور عبر محاولته التلاعب بنتيجة الاستشارات النيابية التي سمت خلالها الأكثرية الحريري. وبين عامي 1998 و2000 ترأس الحكومة سليم الحص الذي وضع في مواجهة الحريري واستعمل ككبش محرقة، ما ادى الى اصابته بهزيمة نكراء في الانتخابات النيابية التي انتصر فيها الحريري وحصد كل المقاعد النيابية في العاصمة، ليعود مظفرا الى رئاسة الحكومة في صيف عام 2000. وتناوب مرتين بين عامي تشرين الأول 2000 وتشرين الأول 2004 على رئاسة الحكومة، ثم خرج بعد ان فرض عليه بشار الأسد التمديد للحود ثلاث سنوات. وأعيد تكليفه ولكنه اعتذر مجددا عن تشكيل الحكومة "مستودعا لبنان الحبيب وشعبه...". وكانت تلك آخر حكومة يرأسها قبل اغتياله في 14 شباط 2005. وهكذا يكون الحريري قد مكث على رأس الحكومة ما مجموعه عشر سنوات من اصل الثلاثين موضوع الاتهام. ولا بد في الوقت عينه من تسليط الضوء على شركاء الحريري في تلك الحكومات، بدءا بوزراء نبيه بري ووليد جنبلاط وسليمان فرنجيه والحزب القومي والبعث، ثم الودائع السورية وهي لا تقل عادة عن نصف عدد الوزراء، ويترك الباقي للحريري. فهل هؤلاء الشركاء كانوا فقط للديكور ولم تكن لهم ادوار وحصص في التعيينات والمشاريع والصفقات؟
بعد اغتيال الحريري شكلت حكومة انتقالية برئاسة نجيب ميقاتي، في ربيع 2005 للاشراف على الانتخابات، وشارك فيها لأول مرة وزير ممثلا ل"حزب الله" وكل من سبق ذكره من القوى السياسية. وبعد الانتخابات شكل فؤاد السنيورة حكومة تضم ايضا كل الاحزاب والقوى، وشارك لأول مرة ممثل عن "القوات اللبنانية" وآخر عن حزب الكتائب الى جانب "حزب الله"، وقد شهدت هذه الحكومة اغتيال احد اهم وزراءها الشباب بيار الجميل عشية عيد الاستقلال عام 2006. واستمرت هذه الحكومة حتى ايار 2008 رغم انسحاب وزراء "حزب الله" وحركة أمل وحلفاءهما احتجاجا على قرار انشاء المحكمة الدولية، ثم قام "الثنائي الشيعي" باحتلال وسط بيروت وانضم اليهما "التيار العوني" معطلين بذلك، وعلى مدى سنة ونصف السنة، الحركة التجارية والحركة السياحية في البلد. ألم يكن ذلك عملا تخريبيا مسيئا لاقتصاد البلد واستنزافا لموارده؟
على أثر غزو "حزب الله" لبيروت قي 7 ايار 2008 الذي وصفه نصرالله ب"اليوم المجيد"، انعقد مؤتمر الدوحة الذي نتج عنه تشكيل حكومة "وحدة وطنية"، وليس حكومة حريرية، برئاسة السنيورة شارك فيها الجميع بدون استثناء بما فيهم التيار العوني، بشخص جبران باسيل الذي تسلم وزارة الاتصالات، ودامت هذه الحكومة سنة واشرفت على انتخابات 2009 التي فازت فيها مجددا قوى 14 آذار. وفي تشرين الثاني 2009 اصبح سعد الحريري لاول مرة رئيسا للحكومة، وهي ايضا ضمت كل القوى بما فيها "حزب الله" والعونيين، وكانت وزارة الطاقة من نصيب باسيل بعد ان جمد عون تشكيلها خمسة أشهر "كرمى عيون جبران" كما جاهر يومها. وبقيت هذه الوزارة الدسمة بالمشاريع والصفقات على حساب تأمين الكهرباء للناس والمياه والنفط بيد باسيل على مدى اربع سنوات حافلة بالبواخر التركية وبالخطط الهامايونية وبصفقات الفيول وبمشاريع السدود وبشعارات "الكهرباء 24/24" الى ان وصل الدين في قطاع الكهرباء الى نحو 45 مليار دولار اي ما يقارب نصف مديونية الدولة، فميا حول وزراء عونيين آخربن وزارة الاتصالات الى مغارة علي بابا! وهذا كله في حكومة "الحريرية السياسية"؟! وفي بداية 2011 اسقط الثلاثي نصرالله-بري-عون حكومة الحريري، وتم تكليف ميقاتي الذي شكل يومها حكومة اللون الواحد من الفريق الممانع وخرج منها "تيار رالمستقبل" و"الاشتراكي" و"القوات" و"الكتائب"، أي حكومة غير حريرية بين 2011 و2013. وبعد سنة تقريبا من المناورات والفيتويات والشروط والشروط المضادة تمكن تمام سلام من تشكيل "حكومة وحدة وطنية" قاطعها فقط "القوات"، واستمرت من شباط 2014 الى نهاية تشرين 2016 يوم انتخب عون رئيسا للجمهورية بموجب التسوية-الصفقة التي عقدها الحريري مع عون برعاية "حزب الله" الذي فرض فراغا رئاسيا على مدى بعد سنتين ونصف السنة كرمى عيون الجنرال...
وهذه حكاية اخرى تضاعفت فيها، خلال ثلاث سنوات فقط، الفضائح والصفقات والسرقات وكل انواع الموبقات! وفي الخلاصة فان "الثلاثين سنة الماضية" ما هي الا عبارة عن خمسة عشرة سنة اذا اضيف اليها حكومتي السنيورة وحكومة سعد الحريري. وسواء في الخمسة عشرة سنة الأولى او الثانية فان الجميع شركاء وان بنسب متفاوتة، ولكنهم شركاء!