يبدو أن الإدارة الأميركية قرّرت أن تغرز السكين في جرح الأزمة اللبنانية التي تختصرها سيطرة حزب الله على القرار، وانكفاء القوى الأخرى، ما أدّى إلى شلل كامل وعميق يلفّ المؤسسات، ويعطّل الحكومة التي أبصرت النور قبل شهر، مخرجا لأطراف سلطة التفليسة الذين اضطروا إلى التراجع تحت ضغط الشارع المنتفض منذ أكثر من أربعة أشهر. حكومة ثبت أنها ليست حكومة اختصاصيين ومستقلين، كما سوق لها ثنائي حزب الله والتيار العوني، بدليل وقوفها عاجزة ومرتبكة أمام ظاهرة وباء "كورونا"، ورفضها إقفال الأجواء والرحلات مع إيران التي جاءت منها إلى لبنان أول إصابة. وبدل إيقاف الطيران فورا مع أربع دول ووضع ثلاثمائة راكب في الحجر الصحي، قرّرت الحكومة، بعد عشرة أيام من ظهور الفيروس في البلاد، إغلاق المدارس والجامعات وحجز مئات آلاف الطلاب في منازلهم! ودليل آخر وقوف الحكومة مشلولة وعاجزة عن اتخاذ قرار في كيفية التعامل مع مهلة دفع سندات "اليوروبوند" التي تنتهي مدتها خلال أيام، في 9 مارس/ آذار الحالي، يقابل ذلك حيرة الحكومة في الاستعانة بصندوق النقد الدولي، أو رفضها، لإيجاد حل للأزمة الاقتصادية والمالية، غير أن حزب الله عاجلها فورا، عبر نائب أمينه العام، نعيم قاسم، معلنا رفض حزبه أي خطة من الصندوق، لأن ذلك يعني برأيه ممارسة وصاية على لبنان.
وفي الحالتين، أثبتت الحكومة أنها خاضعة لمشيئة حزب الله. وهذا ما دفع، أو لنقل ما أعطى حجة للإدارة الأميركية، كي تؤكد أن حزب الله لا يسيطر على القرار السياسي في لبنان فحسب، وإنما أيضا على الاقتصاد، وكشفت أنه لا يزال موجودا ومتسللا إلى داخل المصارف اللبنانية، وفي صلب النظام المصرفي اللبناني، غامزة بذلك من قناة حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، وبعض السياسيين المحابين، الأمر الذي أثار غضب واشنطن التي عملت وتعمل على محاصرة حزب الله منذ سنوات، عبر العقوبات المالية التي ضربت عليه، والإجراءات التي منعت المصارف من القيام بأي عملية مصرفية لأي شخص له علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع حزب الله. وقد ظهر لها الآن أن هذه الإجراءات لم تحترم أو أنها لم تكن كافية.
بدت الإدارة الأميركية وكأنها تتحين الفرصة الملائمة للتصويب وتركيز النار، فما إن أفصح حزب الله عن معارضته أي برنامج إنقاذي مع صندوق النّقد الدولي، حتى انهالت حزمة جديدة من العقوبات الأميركية تستهدف "البنى التحتية" من شخصيات ومؤسّسات لبنانية تعمل لصالح حزب الله، مع تحذير وتصعيد في اللهجة من أن الولايات المتحدة تستعد لفرض عقوبات أخرى على شخصيات لبنانية بموجب "قانون ماغنيتسكي". ولكي تعطي جدّيةً أكثر لخطواتها، وتصميما في سرعة التنفيذ، فقد جندت للمهمة مساعدي وزيري الخارجية والخزانة اللذين عقدا مؤتمرا صحافيا مشتركا لإطلاق تحذيراتهما لحزب الله، ولتوسيع دائرة العقوبات إلى حلفائه، ومن يدور في فلكهم. وقف مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شنكر، معلنا بنبرة قاسية أن "الفساد ومقاومة الإصلاح ليسا فقط من اختصاص حزب الله، بل هناك مجموعات أخرى بين مختلف المذاهب والطوائف والأحزاب اللبنانية، تعارض الإصلاح ومنخرطة في أعمال الفساد". كلام فهم منه أن عقوبات قادمة ستطاول رجال أعمال كبارا وسياسيين أمثال رئيس التيار العوني ووزير الخارجية السابق جبران باسيل الذي يلتزم، في هذه الأيام، أداء حذرا، ويقلل من تصريحاته وإطلالاته الإعلامية.
وتقصّد مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة تمويل الإرهاب، مارشال بيلينغسلي، إعطاء تفاصيل محدّدة عن كيفية اختراق حزب الله الاقتصاد اللبناني، والسيطرة عليه، من خلال إنشاء سلسلة محطات للوقود وشركات الأدوية ومشتقاتها من أجل منافسة الشركات القانونية والمرخّص لها، عبر القيام بتهريب النفط والأدوية إلى لبنان، واستجرار الأموال من تلك الأنشطة لتمويل نفسه. كما كشف بيلينغسلي، ولأول مرة، بالوقائع، أن لدى حزب الله حسابات مصرفية في مصارف لبنانية، غير "جمّال تراست بنك" الذي تمت تصفيته قبل أشهر، بفعل العقوبات الأميركية، بعد أن كشفت واشنطن تعامله مع حزب الله.
وكشف بيلينغسلي أن "مئات الملايين من الدولارات سُرِّبَت من خلال النظام المصرفي اللبناني عبر الشركات (التي فُرِضَت عليها عقوبات أخيراً)، من حزب الله، ومن خلال النظام المصرفي اللبناني، وخلافاً للقوانين اللبنانية".
وشمل بيلينغسلي حاكم البنك المركزي، رياض سلامة، بشيء من الملامة، عندما قال: "لدينا ثقة بحاكم مصرف لبنان، وقد أبديتُ له توقعاتنا حيال ما يجب أن يقوم به المصرف. والتوقعات هي أن ينخرط، بطريقة أكثر فاعلية، لضبط النظام المصرفي اللبناني ضدّ منظمات حزب الله وأصولها. إننا نعتمد على مصرف لبنان، وعلى أدواته التنفيذية، لضمان أن كل الأصول المرتبطة بشركة "الأمانة" (سلسلة محطات الوقود) والشركات الأخرى المصنّفَة داعمة للإرهاب وتابعة للحزب، جُمّدَت بشكل كامل ودائم". وقد ترجم بيلينغسلي عمليا الكلام الأميركي الأكثر دقّة عن علاقة حزب الله بالنّظام المصرفي اللبناني، والذي وصل إلى درجة أن مساعد وزير الخزانة أفصح عن بعض "حميميات" ما تناقش به مع حاكم المركزي، وهو ما يفسّر أسباب حال "البهدلة" التي وصل إليها اللّبنانيون في ودائعهم، حتى الصغيرة منها. إذ يحق اليوم لصاحب حساب في بنك أن يسحب من حسابه بين المائة والمئتي دولار فقط في الأسبوع. وربّما نكون في المراحل المقبلة أمام تفاصيل أخطر وأكثر دقّة تكشفها واشنطن، إن لم تتأكد من حصول تقدم ملموس في إطار ضبط أنشطة حزب الله المالية.
وفي حديث الى إحدى الوكالات، قال مسؤول مالي كبير إن "آخر همّ لدى الأميركيين ما إذا كانت الكيانات والشركات التي فُرِضَت عليها عقوبات تخالف القوانين اللبنانية أو لا. ما يهمّهم في الأساس هو محاصرة حزب الله"، وسيصل هذا المسار إلى النهاية في شكل واضح. وما قاله بيلينغسلي وشينكر يؤكد أن هدف واشنطن إظهار أسباب وأهداف حربها علنا وأمام الجميع".
وعن مستقبل الودائع المصرفية الموجودة في المصارف اللبنانية، في تلك الحالة، قال المصدر إن "القانون الأميركي يمنع مصادرة ودائع مصرفية في الخارج. وبالتالي، هم يحتاجون إذا أرادوا القيام بذلك إلى قرار قضائي، ليتمكّنوا من حجز الودائع المصرفية اللبنانية الموجودة خارج لبنان، وليس في الداخل، ولكن هذا النوع من المسار القضائي يستغرق في العادة سنوات وسنوات". ولكن الخطر اللبناني الداخلي، الناجم عن إمكانية أن تفرض واشنطن عقوبات وإجراءات مالية أقسى من الموجودة حالياً، فهي ترتبط بأن ذلك سيؤول إلى أن تمدّ الدولة اللبنانية يدها إلى الودائع المصرفية، ولو في شكل نظري. ورداً على سؤال عن خطر إمكانية إقفال بعض المصارف اللبنانية خلال العام الحالي، كما حصل مع "جمّال ترست بنك"، أجاب المسؤول المالي الرفيع: "ما قاله بيلينغسلي وشينكر ليس مزحة، فهناك مصارف "طالعة ريحتهم" أكثر من اللّزوم. كما أن بعض المصارف اللبنانية "طالعة ريحتها" في إطار تبييض الأموال، وتوجد إثباتات على ذلك. كما أن بعضها الآخر وقعت في الفخّ عندما صارت تقبل ودائع "كاش"، من دون أن تسأل عن مصدرها، وهذا نوع من تبييض أموال". وقد تبين أن الإدارة الأميركية تحكم انطلاقا من معطيات تعود إلى فترة طويلة، وهي تلاحق كل ما له علاقة بالواقع المصرفي والمالي اللبناني منذ عام 2005.
هناك تصميم من الولايات المتحدة والسعودية وبعض دول الخليج والدول الصديقة والمانحة التي التقت في مؤتمر سيدر الذي عُقد في باريس لدعم لبنان قبل عامين، على عدم صرف الأموال التي خصصت له (12 مليار دولار) طالما أنه لا يقرّ إصلاحات جذرية بنيوية، وطالما أن حزب الله يتحكّم بالقرار السياسي. ولا بد من لفت الانتباه إلى أنه مضى على تشكيل الحكومة الجديدة شهر، ولم تتلقَّ أي تهنئة من أي دولة عربية، ولا من أي دولة أجنبية، ولم تُبد معظم الدول الصديقة استعدادا لاستقبال رئيس الحكومة الجديد. على ضوء كل ذلك، فإن الحصار يطبق على لبنان الذي يبدو ذاهبا إلى عزلة سياسية ومالية شديدة الصعوبة والتعقيد.
العربي الجديد