الفساد! كلمة تختصر واقع الحال الذي يعيشه لبنان منذ سنوات، ان لم نقل منذ عقود. فساد السلطة السياسية التي عملت، هي وازلامها ومحاسبيها، على نهب الدولة ومؤسساتها، وعلى عقد الصفقات المشبوهة وتلزيم المشاريع بالتراضي، وعلى ابقاء مزاريب الهدر مفتوحة على مصراعيها، مثل ازمة الكهرباء المستمرة منذ عقود جرحا نازفا في خزينة الدولة لدرجة ان كلفتها بلغت حتى اليوم نحو 45 مليار دولار اي ما يعادل تقريبا نصف مديونية الدولة. وما زالت الكهرباء بقرة السلطة الحلوب.
وفي السنوات الأخيرة، منذ عقد التسوية الثلاثية الاطراف، في نهاية تشرين الأول 2016، بين عون والحريري ونصرالله برعاية الاخير، أضحت الدولة دولة الفساد بامتياز. الفساد السياسي ايضا، وليس فقط المالي. يكفي النظر مثلا الى قانون الانتخاب الأخير الذي فصل على قياس أحزاب السلطة، وجرت على اساسه الانتخابات الاخيرة التي انتجت مجلسا نيابيا كرس التمثيل الطائفي والمذهبي، واحتكره باستبعاده اي صوت حر ومستقل وغير خاضع لوصاية الأحزاب. واحتكر كل حزب او تيار تمثيل طائفته ومذهبه. الفساد السياسي تجسده ايضا المحاصصة في الوظائف بين هذه الأحزاب، او في الصراع فيما بينها على تقاسم المغانم! ثم أضيف في الأشهر الأخيرة عنصر جديد ومبتكر على منظومة الفساد هو التلاعب بأموال المودعين ومحاولة سرقة مدخراتهم بهدف تدفيعهم ثمن أزمة المصارف وفضيحة الانهيار المالي والنقدي.
وبالأمس، انعقد مجلس النواب بعد طول غياب برغبة استثنائية في التشريع، وانما في قصر الاونيسكو، وليس في ساحة النجمة، حيث يمكن اتخاذ التدابير اللازمة حفاظا على صحة النواب وسلامتهم من وباء كورونا. وكان جدول الاعمال مليئا بمشاريع القوانين الاصلاحية تعبيرا عن رغبة المجلس ورئيسه باطلاق ورشة الاصلاح التي طالما حلم بها اللبنانيون. وفور انطلاق اعمال الجلسة كان في مقدمة البنود المدرجة على جدول الاعمال مشروع قانون محاربة الفساد الذي يشكل القاعدة والمنطلق الأساس لتطهير الدولة واعادة بناء مؤسساتها، والذي تطلب جهدا ووقتا طويلا ومحطات عديدة من المزايدات والسجالات الحادة قبل ان يصل الى القاعة العامة. واذ بهذا مشروع القانون يقر بلمح البصر، وبرفع الأيدي، من دون اي نقاش يذكر، كما يفعل رئيس المجلس نبيه بري في اغلب الأحيان عندما يريد ان يمرر اي قرار. فهل يعقل ان لا يناقش اي فريق سياسي او يبدي اي نائب مسؤول ملاحظات على مشروع قانون بهذه الأهمية؟ مع ذلك يمكن القول ان المهم هو انه اصبح لدينا قانونا لمكافحة الفساد بامكان اللبنانيين ان يتسلحوا به من الآن وصاعدا ويحاسبوا المرتكب الذي يتولى السلطة. وبطبيعة الحال هذا القانون يحتاج الى مجموعة قوانين وقرارات مرافقة ومسهلة، لأن الهدف ليس فقط منع حصول الفساد مستقبلا، وانما ايضا محاسبة الفاسدين والمرتكبين الذين نهبوا المال العام ووضعوا الدولة على شفير السقوط، كما انه لا يكفي التهويل والتهديد بملفات فساد مزعومة ورؤوس كبيرة "أينعت وحان قطافها" على طريقة ما يقوم به "حزب الله" ومفوضه حسن فضل الله منذ سنتين!
وهذه القوانين الضرورية واللازمة تبدأ اولا بقرار رفع السرية المصرفية عن حسابات السياسيين للتدقيق في ما كدسوه في المصارف المحلية والاجنبية، يتبعه قانون الاثراء غير المشروع لرفعه في من وجه من اغتنى بطرق وأساليب ملتوية وغير مشروعة، ثم رفع الحصانة عن السياسيين من وزراء ونواب. ولكي تكتمل السلسلة تعديل قانون المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء كي يصبح بالامكان فعليا مثول من يتهم منهم أمام القضاء. كل هذه المشاريع القوانين كانت مطروحة على جدول أعمال الجلسة في يومها الثاني، غير انها جميعها - نعم جميعها - لم تقر ولم تصبح قوانين، واحيل معظمها الى مقبرة اللجان! واللافت ان "التيار العوني" الذي يرفع شعار محاربة الفساد، ويتهم الآخرين بارتكاب كل المعاصي، صوت ضد معظم هذه القوانين. هكذا بقدرة قادر أصبح قانون محاربة الفساد يتيما بدون "عدة شغل"، فكيف للفاسد ان يحارب نفسه؟!
سعد كيوان