كلّ تسوية مع حزب الله هي اختبار لحنكة شراكئه.
فأحد شروط إمساك الحزب بقواعد اللعبة هو خفض مستوى العمل السياسي وجعل أذكى السياسيّين الطامحين إلى السلطة يظهرون سذّجاً بلا حجّة ولا منطق.
وفي مقابل تسخيف الحزب للسياسة فإنّ أي معارضة له لا تستقيم إن لم تبدأ بوعي الحاجة الملحّة لإعادة المعنى إلى السياسة. وهذا وعي لا بدّ أن يقطع بين العمل السياسي والسعي للوصول إلى السلطة في ظلّ شروط اللعبة الحالية، لأن هذا السعي يؤدي حكماً إلى تتفيه صاحبه.
لقد كانت تسوية العام 2016 أوّل الطريق نحو تسخيف العمل السياسي، إذ فقدت كلمات مثل الإصلاح والإستقرار والسيادة معناها الحقيقي، واقترب لبنان من الأنظمة الشمولية التي تستولي على المعنى الحقيقي للكلمات وتنتج لها معانيَ موازية وتحريفية.
كما الكلمات كذلك الأشخاص. فعملية تتفيه العمل السياسي لا تكتمل إلّا بالإتيان بشخصيات نيابية ووزارية بلا أدنى خبرة سياسية بالرغم من علومهم واختصاصاتهم. فهم سياسياً مجرّد أرقام في حصّة هذا الفريق أو ذاك.
وهو ما ينتج لعبة سياسية هجينة. فمن جهة هناك وزراء تقنيون أو شبه تقنيين لا يفقهون ألف باء السياسة، ومن جهة ثانية هم محسوبون سياسياً على الأطراف السياسيّة. أي أنّهم وزراء ذات صفة سياسية وبلا صفة سياسية في آن معاً. والأمر ينطبق على النوّاب الذين جيء بغالبيتهم فقط لأنّهم "غير سياسيين" وليست لديهم لغة إلّا لغة زعمائهم.
كلّ هذا الانحطاط في العمل السياسي كان دليلاً مبكراً إلى أنّ لبنان يقيم في إنهيار سياسي وثقافي قبل أن يصل إلى الإنهيار الإقتصادي والمالي الذي لم يبقِ منه شيئاً ممّا كان.
أتقن الرئيس سعد الحريري اللعبة جيداً منذ إبرامه التسوية مع الحزب وميشال عون، فتبدّلت لغته ولغة إعلامه، لكنّ كلّ ما فعله لم يكن كافياً لنجاته من مواجهة الأسئلة الصعبة التي تفرضها عليه التسوية مع الحزب مهما بلغت حنكته السياسية.
ألم يقل الرئيس الحريري إنّ قضية سلاح حزب الله هي مسألة إقليمية؟ كان كلامه محاولة للهروب من أعباء التسوية مع الحزب على علاقاته وعلاقة حكومته مع دول الخليج وتحديداً السعودية.
والآن يحصل الأمر نفسه مع الرئيس نجيب ميقاتي الذي عندما سئل عن شاحنات المازوت الإيراني قال إنّه حزين على انتهاك السيادة اللبنانية، كما لو أنّه مغتربٌ لبناني دفعته أوضاع البلد إلى الهجرة فيشاهد في التلفزيون مشهد الشاحنات العابرة من سوريا إلى لبنان ويعبّر عن حزنه إزاء ذلك.
لكنّ حزن الرئيس ميقاتي لا يجب أخذه على أنّه دليل عجزٍ عن فعل شيء لمنع انتهاك سيادة لبنان وإنمّا هو تعبير واضح عن حقيقة التسوية الجديدة التي انتجت الحكومة الحالية.
فكلّ شركاء ميقاتي في الحكومة فرحون باستقبال شاحنات المازوت الإيراني إلّا هو. وهذا أمرٌ يجعل حزن رئيس الحكومة بمثابة إعلان استسلام مبكرٍ من قبله أمام الغالبية الحكومية المغتبطة بالنفط الإيراني.
فتعبير ميقاتي عن حزنه لن يجعل الحزب يتأثّر لحالته بل على العكس تماماً فهو سيواصل تهريب المازوت من سوريا إلى لبنان بعدما كان يفعل العكس، وربما سيواصل الأمر بالاتجاهين، باعتبار التهريب جزءا من إستراتيجية المقاومة كما قال الشيخ النابلسي.
بيد أنّ الرئيس ميقاتي الحزين على انتهاك سيادة لبنان مطمئن إلى أنّ المازوت الإيراني المهرّب لن يعرّض الدولة اللبنانية للعقوبات الأميركية لأنّه هرّب من دون علمها؛ وهل يحلم الحزب بتغطية حكومية أفضل من هذه التغطية للاستمرار بتهريب المحروقات الإيرانية إلى لبنان؟
إلّا أنّ الرئيس ميقاتي لم يفته التعهد للدول العربية بأن لا يكون لبنان مصدر إساءة لهم، فربّما يظنّ أنّ الحزب تحوّل إلى شركة نفطية تمدّ الأسواق اللبنانية بالنفط الإيراني ولم تعد له أيّ مهمّات عسكرية وأمنية في المنطقة. لكن فات الرئيس ميقاتي أنّ الحزب الذي خرق السيادة الدولة اللبنانية بالمازوت الإيراني سيكمل حتماً سياساته العدائية تجاه دول الخليج وبالأخص السعودية.
هذا أوّل اختبار لحنكة الرئيس ميقاتي وحكماً ستليه اختبارات أخرى!