قبل أيام أطل وزير الداخلية الضابط السابق محمد فهمي، عبر احدى البرامج التلفزيونية، ليفجر مفاجأة من العيار الثقيل باعلانه، وبمنتهى الصراحة والوضوح، انه قتل قبل اربعين سنة شخصين "حزبيين" لم يشأ ان يفصح عن هويتهما. كشف فهمي سره ببرودة أعصاب لافتة يشوبها شيىء من فجاجة العسكري وسذاجته. أي يعترف بانه قاتل بغض النظر عن الاسباب التي دفعته لارتكاب فعلته، والتي لم يرد الافصاح عنها. جريمة من الماضي "هبطت من السماء"، من خارج سياق الاحداث والتطورات، وفي توقيت مشبوه! لماذا، وما هو الهدف؟ اعتراف وزير الداخلية لم يسبقه اليه احد. قبله وبعده كثر مارسوا القتل زعماء سياسيين وميليشيات هم اليوم في السلطة، الا انه لم يعترف احدا منهم بانه قاتل!
العسكري السابق عاش فترة من الحرب تحت إمرة ميشال عون الذي كان يومها قائدا للواء الثامن في الجيش. فقد أكمل الضابط المتقاعد اعترافه بكشف سر آخر نعتقد انه لا شك خلق ارباكا لدى رئيس الجهمورية، اذ اكد فهمي عبر شاسة قناة تلفزيونية صديقة انه غطاه وحماه بعد ارتكابه الجريمة. وفي سياق عرضه وتذكره للوقائع كان كثير الاطراء والمديح لعون قائلا انه وعائلته يحفظان له ذلك "الجميل" الى الأبد، وانه مازال يناديه "سيدنا"؟!
فلماذا يريد وزير احدى اهم الوزارات واكثرها تاثيرا وحساسية ان يخطب ود رئيس الجمهورية ويتملق له؟ لماذا هذا "التورط والتوريط" بعد اربعين سنة على ارتكاب فهمي عملية القتل تلك؟ ألسنة السوء تقول ان الرجل يطمح لموقع اهم وارفع، غير ان مراجعة سريعة لسيرته لا تشي بانه يتمتع بكفاءات استثنائية او اقله مميزة، او ان له انجازات معينة، او انه صاحب رؤية استشرافية او حامل مشروع اصلاحي لانقاذ البلد. لا بل على العكس، فقد عمل فترة طويلة من خدمته كمجرد ضابط في جهاز المخابرات بتناغم مع سلطة الاحتلال السوري، ولا يتذكر اي من زملائه في السلك، في تلك الحقبة، اي دور او انجاز لافت يحفظونه له. فالى اين يريد ان "يصل" فهمي، وما هذا الذي يتراءى له عبر استرجاع ما ارتكبه في ماضيه؟ لعل هذا الزمن الرديء الذي يسوده الانحطاط من كل صوب، يتطلب امثال هذا الرجل الباهت والقاتم الشخصية، نظير زملائه في "حكومة المستقلين والتكنوقراط" الذين اثبتوا انهم ليسوا مستقلين ولا تكنوقراط، انهم مجرد وزراء دمى لا يملكون حرية القرار، ولا يفقهون في شيء، وزراء لا طعم ولا لون ولا رائحة لهم!
واذا كان هذا الرجل قد أقدم على خطوة مثيرة، وغريبة، ومستفزة لمشاعر ذوي من قتل، ومثيرة للريبة لدى معظم اللبنانيين، وهو اليوم وزير للداخلية مسؤول عن أمن واستقرار وطمأنينة جميع اللبنانيين، الم يكن جديرا اولا برئيس حكومته، لا بل من مسؤوليته، ان يستدعيه لمساءلته عما ارتكب؟ كيف لوزير في موقع المسؤولية ان يبقى في موقعه وكـأن شيئا لم يكن رغم اعترافه، ولو بمفعول رجعي، انه ارتكب جريمة؟ حتى في الدول غير الديموقراطية وغير الضامنة لحقوق الانسان يضطر شخص مثله ان يقدم استقالته، أما في الدول المحترمة فهكذا فضيحة من شأنها ان تطيح في الحكومة بأكملها! أم ان حكامنا يعتبرون انفسهم في "جمهورية الموز"؟! لا من يحاسب ولا من يسائل!
كما ان اللافت ايضا ان رئيس الجمهورية لم يحرك ساكنا ولم يكلف نفسه مجرد نفي على الأقل ما جاء على لسان ضابط كان في إمرته، وهو اليوم يجلس في مجلس الوزراء الذي يترأسه عون ويدعي احترامه وطاعته له. أكثر من ذلك، ان فهمي قد سمى عمليا عون كشاهد وكمغطي للجريمة ولمرتكبها، لذلك فعلى رئيس الجمهورية ان يخرج عن صمته لأن في ذلك اساءة لصورته وموقعه. مريب ايضا صمت القضاء، وهو الجهة التي تقع عليها المسؤولية الأولى في التحرك، والمبادرة الى فتح تحقيق جدي وشفاف في جريمة كشفها (وارتكبها) وزير في الجمهورية اللبنانية، ولو ان هناك من سيقول عن حق ان تلك الجريمة قد سقطت بفعل التقادم الزمني. ولكن، أليس هناك على الأقل مسؤولية معنوية واخلاقية؟ الغريب ايضا ان الصمت يلف الطبقة السياسية بأكملها، في السلطة وفي المعارضة. لم يكلف احدا منهم نفسه مجرد التعليق. ألم يسأل أي منهم نفسه ما الغاية من هذا "الاعتراف" المتأخر أربعين سنة. هل لأن لديهم شعور بعقدة ذنب ما؟ أم ان القتل بات امرا عاديا!
يبقى اللغز الذي يحيط بالأسباب التي دفعت بوزير الداخلية للجوء الى مثل هذه الخطوة الصادمة لبلد يبحث عما يبلسم جراح الماضي، الذي يرجع صداه في ظروف ووقائع مختلفة، ويخطفه اليوم السلاح غير الشرعي المطبق على الدولة وقرارها ومؤسساتها. الا ان تكرار فهمي لسرد وقائع تلك المأساة على اكثر من قناة تلفزيونية ("المنار" و"العربية")، وبنفس يحاول الايحاء بعفوية الفاعل، يعكس ربما نوعا من التطهر من كابوس يؤرق الرجل طيلة هذه السنوات. أم انه اراد ان يبدد الشبهات التي تحوم حول من رشحه لدخول الحكومة؟