قد يكون من اللافت أن أغلب القواعد الشعبية لحركة النهضة التونسية باتت أقرب إلى مواقف الرئيس قيس سعيد، بل وأبدت تأييدا لإجراءاته الاستثنائية التي أعلن عنها في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، ومنها ما يتعلق بحل الحكومة وتجميد صلاحيات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه.
مساندة إجراءات قيس سعيد أعلن عنها كذلك قياديون في الحركة من داخل الجناح الذي ضاق ذرعا بتصرفات جناح راشد الغنوشي والمقربين منه -كعبدالكريم الهاروني ونورالدين البحيري ورفيق عبدالسلام- وبإصراره على السير في طريق إنكار الواقع وعدم الاعتراف بحقيقة الفشل الذريع التي تكبدته الحركة خلال السنوات الماضية، ولاسيما من حيث تآكل رصيدها الانتخابي وتحولها إلى حركة معزولة ومتهمة بالوقوف وراء كل المآزق والأزمات التي عرفتها البلاد سواء كانت مالية واقتصادية أو سياسية أو اجتماعية وصولا إلى الوضع الصحي الكارثي بسبب انتشار جائحة كورونا.
التصدعات التي ظهرت في الدورة الاستثنائية لمجلس شورى الحركة أكدت أن الأزمة هيكلية ومنهجية وأخلاقية بالأساس، وأن الحركة انتهت سريعا إلى وضعية الإنهاك الداخلي بعد أن استهلكتها لعبة المصالح الشخصية والفئوية داخلها، وبعد أن تبين أن كل الشعارات التي كانت ترفعها زمن العمل السري ومرحلة المعارضة من أرصفة شوارع الدول الأجنبية تبخرت وانقلبت إلى عكسها من باب الممارسة التي طالما كانت المحك الحقيقي لقوى الإسلام السياسي، فكشفت أنها تيارات انتهازية تتولى تعويم المحلي بالإقليمي والدولي، والدنيوي بالديني، والواقعي بالغيبي، لتصل في الأخير إلى تحقيق مصالح الفرد الحاكم بأمره ومن يحيطون به من صفوة المتقربين إليه لنسج ملامح شخصية المستبد على الأرض بادعاء امتلاك ختم السماء، ولو عبر الدوس على كل المعايير الأخلاقية الدينية والإنسانية.
جاء قيس سعيد من داخل المنظومة المحافظة اجتماعيا، فالرجل الذي لفت إليه الانتباه بعد 2011 بإصراره على أن يتكلم لوسائل الإعلام بلغة عربية فصحى، وأن يستشهد بآيات قرآنية وأبيات من الشعر القديم، وبالحديث الدائم عن استقلالية القرار الوطني، والذي استطاع أن يوصل إلى الجميع انطباعا بأنه نظيف اليد وقويم السلوك، وخاض الانتخابات بتبرعات بسيطة من قبل أنصاره البسطاء، وأغلبهم من طلبته القدامى والطلبة الحاليين والعاطلين عن العمل، وفاز فيها كعنوان للنزاهة والشفافية في وجه منافس متهم بالفساد.
الرجل الذي عوّد التونسيين على زيارة المساجد لأداء الصلوات في مواعيدها، والذي يناديه محبوه بلقب الأستاذ بما يعنيه من رمزية أخلاقية واجتماعية ومعرفية ومن الانتماء إلى الطبقة الوسطى التي تحمل دائما عبء التحولات المصيرية، والرجل الذي تعددت فيه مآثر سرعان ما ترسخت في عيون التونسيين، ومنها رفضه بعد تنصيبه الانتقال للإقامة في قصر الرئاسة بقرطاج، ورفضه التدخل وهو رئيس للبلاد لتعديل قرار مجلس القضاء بنقل زوجته التي يفترض أنها سيدة تونس الأولى للعمل كقاضية في صفاقس على بعد 270 كلم من العاصمة، ووفاؤه لعاداته القديمة كارتياد المقاهي وظهوره وهو يشتري رغيف خبز من الفرن.
والرجل الذي لم يترك مناسبة دون أن يوجه “صواريخه” حول ضرورة اجتثاث الفساد ومحاربة الفاسدين، والذي حدّد مواقفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمعايير أولها التصدي للوبيات والعصابات والمال العام، والدفاع عن الفقراء والبسطاء والمحرومين.
هذا الرجل هو الذي استطاع أن يسحب البساط نهائيا من تحت أقدام الإخوان بعد أن تحالفوا مع الفساد، وطبّعوا مع الفاسدين، وظهرت عليهم معالم الثراء الفاحش حتى تغيرت ملامح وجوههم، وتبدلت لهجة الخطاب عندهم، واندمجوا في بريق الحكم ومغريات السلطة، وتحولوا من منتقدين للأنظمة السابقة إلى متبنين لأسوأ ما كان فيها، وهو التحالف مع المتحكمين في الاقتصاد الموازي والعابثين بقوت المواطن البسيط، ومن لاعنين لزمن الحزب الواحد إلى متدثرين بغطاء اللوبي الواحد الفاسد والمفسد، وهو ما أشار إليه قيس سعيد في مناسبات عدة.
تعرّت حركة النهضة أخلاقيا، وبالمقابل ظهر قيس سعيد كرجل متدين ومحافظ ونظيف اليد ومحارب للفساد ومدافع عن الفقراء، وهو ما جعل تيارات واسعة من السلفيين والمحافظين ومن أنصار النهضة غير المؤدلجين بعقيدة المشروع العابر للحدود يتجهون لدعمه ولإعلان مساندتهم لقراراته، فيما بقي جناح الصقور الإخواني وحده يتحدث عن انقلاب، ليس من منطلقات الدفاع عن امتيازات الحكم في الداخل فقط، ولكن كذلك من باب الخشية على تأثير تلك القرارات في عزلهم عن دورهم الإقليمي والدولي.
وبعد العام 2011 راهنت الحركة على أن يكون وصولها إلى الحكم وبقاؤها فيه من بوابة المغالبة امتدادا لموجة انتشار الإسلام السياسي في المنطقة على ضوء ما سمي بالربيع العربي المدعوم خارجيا، ووجدت صدى في جانب من المجتمع التونسي، ولاسيما في الفئات المحافظة ومنها متوسطو وصغار التجار، والجهات التي تعتبر أن الدولة الوطنية لم تنصفها تنمويا وأهملتها ثقافيا، ولدى التونسيين المقيمين بالخارج ممن رأوا في النهضة عنوانا للهوية المهددة. واتخذت موالاة الحركة امتدادات أسرية وعشائرية وقبلية، واعتبرها البعض ردا على ما تم نعته بموجة التغريب التي حمّلها الإسلاميون والعروبيون مسؤولية كل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وذلك ضمن محاولة لتصفية الحساب مع المشروع البورقيبي والصدمات التي أحدثها في المجتمع وخاصة بتحرير المرأة وتوحيد التعليم والقضاء. ولذلك كان من أبرز الخطوات التي اتخذها الإخوان العمل على إدانة دولة الاستقلال ورموزها والتشكيك في وطنيتها وحتى في استقلال البلاد، مقابل البدء في تشكيل مجتمع مواز بأدوات موازية في الثقافة والتعليم والإعلام والاقتصاد وغيرها، والسعي لاختراق أجهزة الدولة ومنها الأمن والقضاء، والدفع نحو تمظهرات شكلية لأخونة المجتمع والإيحاء بوجود تحولات حقيقية في اتجاه تونس مختلفة عن التي عرفها أهلها قبل العام 2011.
وعندما اتسعت دائرة الإرهاب العنيف وبدأ المجتمع يستفيق ويدرك أنه يسير في الاتجاه الخطأ، ومع ظهور معارضة قوية للإسلام السياسي، ولاسيما بعد الاغتيالات السياسية التي عرفتها البلاد في عام 2013، وبروز حركة “نداء تونس” بزعامة الباجي قائد السبسي وفوزها في انتخابات 2014، وكذلك في ظل انكسار مدّ الإسلام السياسي في المنطقة بعد الإطاحة بحكم محمد مرسي في مصر، وخسارة إخوان ليبيا انتخابات 2014 وانقلابهم عليها من خلال منظومة فجر ليبيا بما أدى إلى حالة الانقسام، تحول رهان حركة النهضة ليحوم حول نيل رضا الغرب بزعمها تمثيل ما سمته بالإسلام الديمقراطي وتقديم نفسها على أنها نموذج جيد للبديل الحقيقي والناجع للإسلام الراديكالي وجماعات التطرف والإرهاب، وأنها مع الشراكة السياسية بين من قسمتهم بين إسلاميين وعلمانيين، لترسيخ المسار الديمقراطي في البلاد، واعتمدت على ازدواجية المواقف والشعارات والرؤى، بين ما هو موجه إلى الداخل وما هو مخصص للتصدير إلى الخارج، واحتفظت في المقابل بتخندقها الإقليمي ضمن محور الإسلام السياسي، وهو ما أضرّ بعلاقات تونس الخارجية، وجعل منها دولة مارقة عن روح الاعتدال الذي عُرفت به.
خلال السنوات العشر الماضية كان قرار النهضة واضحا، وهو أن تكون في الحكم مهما كان حجم حضورها فيه، وألا تكون في المعارضة حتى ولو حظيت بزعامتها، لذلك تحالفت مع الفساد واستندت إلى العنف في معركتها للسيطرة على البرلمان، ومنه على الحكومة، وعندما اصطدمت بمواقف قيس سعيد سعت لتشويهه وقامت بمحاولات عدة في اتجاه شيطنته، ولكنها لم تفلح في المساس بالجانب القيمي والأخلاقي المترسخ فيه، وهو الجانب الذي أصرّ على أن يتسلح به في مواجهة ما اعتبره مؤامرات تستهدفه وتستهدف الدولة والمجتمع.
عندما تفقد حركة النهضة الحكم تكون قد فقدت أهم أداة جذب قد تستفيد منها، فبعد أن كانت تعتمد منذ سنوات على الخطاب الديني والهووي والأخلاقي، وأكدت بالممارسة العملية أنه خطاب مصطنع لا علاقة له بحقيقة مشروعها وأدائها، تحولت إلى الاعتماد على السلطة لجذب أنصار هم في الغالب من المستفيدين وأصحاب المصالح والأطماع. واليوم -وبعد فقدانها شرعية الخطاب وأدوات الحكم- تجد نفسها معزولة سياسيا واجتماعيا فيما يبدو قيس سعيد المستفيد الأكبر في البلاد، على أن يفي بوعوده للشعب الذي يسانده، ومن ذلك مواصلة الحرب على الفساد وكشف كل الحقائق الخفية حول السنوات العشر الماضية.
ولم تستطع حركة النهضة أن “تتتونس” بشكل يمنحها فرصة التحول إلى تيار شعبي جارف، وإنما بقيت حركة عقائدية لم تخرج -رغم قيادتها للحكم ومشاركتها فيه خلال السنوات العشر الماضية- من بوتقة التنظيم الغامض والمنغلق والملتف حول نفسه، والحذر في معاملاته مع عموم الشعب، فالشك يحيط به من داخله، والخوف من الاختراق كان دائما الهاجس الذي لاحقه، والذي يحمل في جانب منه تعبيرا عن سعيه لاختراق الأحزاب الأخرى، وضربها من الداخل، كما فعل مع أغلب الأحزاب التي تحالفت معه أو التي عارضته ووجد منافذ إلى اقتحام حصونها.
الحبيب الأسود - عن موقع العرب