قبل أن يكون جورج قرداحي مؤيداً للحوثيين في اليمن فهو مؤيدٌ لحزب الله في لبنان. بالتالي هناك ترابط وثيق بين تأييده للطرفين. فهو إن لم يؤيّد الحوثيين يصبح تأييده لحزب الله مشكوكاً فيه باعتبار أنّ هذين الطرفين، أي حزب الله وأنصار الله، هما حليفان وثيقان لإيران.
لذلك فإنّ موقف قرداحي الذي انتقل فجأة من الإعلام إلى السياسة ليس تعبيراً عن رأي شخصي مجرّد من أي غاية سياسيّة كما حاول الإدّعاء، بل هو دلالة واضحة على الإصطفاف السياسي الذي ينخرط فيه الرجل ولولا انخراطه فيه لما عيّن وزيراً.
فقرداحي لم يعيّن وزيراً بالنظر إلى كفاءته ولا إلى خبرته السياسيّة بل بسبب تموضعه السياسي إلى جانب حزب الله ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية فضلاً عن رئيس الجمهورية ميشال عون والتيار الوطني الحر. وجميع هؤلاء في "خطّ" سياسي واحد، بالرغم من التنافس الحاد بين المردة والتيار الوطني الحر على "كعكعة السلطة".
عليه فإنّ رفض قرداحي الاعتذار عمّا قاله بحقّ الشرعية اليمنية والسعودية والإمارات يحيل إلى موازين القوى في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي وفي السلطة اللبنانية عامّة والراجحة لمصلحة الحزب وحلفائه في لبنان. فلو طلب موزّرو قرداحي، أي الحزب وعون وفرنجية، أن يعتذر عمّا قاله لاعتذر فوراً ولو طلبوا منه الإستقالة لاستقال فوراً أيضاً. ولذلك فهو تمسكّ بموقفه ورفض الإعتذار والاستقالة بإيعاز من القوى المهيمنة على الحكومة؛ وهنا العمق الحقيقي للقضية.
فليست محض صدفة أن يكون رعاة قرداحي هم حزب ذات هوية مذهبية معينة وحليفان له هم أيضاً ذات هوية طائفية معينة. كما لم تكن صدفة أن يكون وزير الخارجية السابق الذي أطلق مواقف عنصرية ضدّ السعودية منتمياُ إلى المحور السياسي – المذهبي - الطائفي نفسه، وهو تحالف الأقليّات.
هذا الأمر يدفع إلى وضع موقف وزير الاعلام اللبناني في إطاره الجيوسياسي بالنظر إلى تموضع السلطة اللبنانية الحالية في المحور الإيراني بتغطية مباشرة من عون الذي عُدّ انتخابه من قِبل طهران وحزب الله انتصاراً لهما. وليس رفض قرداحي الإعتذار والإستقالة سوى رسالة من قبل المحور إيّاه بأن الكلمة العليا في لبنان له، ولذلك فإنّ القضية تتجاوز شخص قرداحي وموقفه.
إذ يحيلنا هذا الموقف إلى تموضع قسم من مسيحيي لبنان بقيادة التيار الوطني الحر وتيار المردة في محور تحالف الأقليات الذي تقوده إيران في المنطقة والذي يُوجّه ضدّ مسلميها السنّة بحجّة حماية الأقليات الطائفية منهم. ولذلك فإنّ هذا التحالف يعادي الممكلة العربية السعودية لكونها مركز الثقل السياسي والإقتصادي والديني للمسلمين السنّة في المنطقة.
والواقع أن تحالف الأقلّيات الذي كان نظام حافظ الأسد في سوريا أهمّ المروجيّن والداعمين له تاريخياً ما هو إلّا أداة نظرية ودعائية لتمكين فئة سياسيّة من هذه "الأقليات" من الإمساك بزمام الحكم في بلادها التي تضمّ غالبية سنيّة، أي أنّها أداة لتأبيد تغلّب فئوي على المجتمع بأسره.
اليوم ترث إيران عن نظام الأسد قيادة هذا التحالف وترث عنه أيضاً استراتيجيته لاستقطاب المسيحيين العرب إلى هذا التحالف. لكنّ الفارق أنّ حافظ الأسد لم ينجح في استقطاب تيار واسع من المسيحيين اللبنانيين إلى هذا التحالف، وإن شهدت بدايات الحرب اللبنانية تقاطعاً بين أحزاب الجبهة اللبنانية ونظام البعث السوري ضدّ منظمة التحرير الفلسطينية واليسار اللبناني، لكن سرعان ما انقلب هذا التقاطع عداءً دموياً بين الجانبين. إلّا أنّ طهران وحزب الله نجحا في استقطاب تيار مسيحي واسع هو التيار الوطني الحر إلى محورهما.
وغاية إيران من استقطاب المسيحيين ليست حمايتهم كما يدّعي حلفاؤها الشيعة والمسيحيون، بل هي تستخدمهم لخدمة مشروعها التوسعي في المنطقة. وبالعودة قليلاً إلى الوراء فإنّ المسيحيين السوريين لم يتعرّضوا للإضطهاد السياسي والاجتماعي في الفترة الممتدة بين استقلال سوريا وتسلّم حزب البعث السلطة فيها ليقول هذا الحزب أنّه حمى المسيحيين، فممّن حماهم ما داموا مواطنين سوريين أسوة بغيرهم من السوريين وقد عُيّن منهم رئيساً للحكومة هو فارس الخوري؟
أمّا حديثاُ فإنّ الجماعات الإرهابية لم تستهدف المسيحيين وحسب وإنما المسلمين بجميع مذاهبهم أيضاً. لكنّ الأهمّ أنّ هذه الجماعات ما توسّعت إلّا في الدول التي شهدت فشلاً سياسياً واقتصادياً مثل سوريا والعراق واليمن، وهي كلّها دول تسيطر عليها إيران بحسب إدعائها. أمّا المسيحيون في لبنان فلم يهدّدهم أحدٌ. وللتذكير فإنّ مسيحيي العراق عبّروا خلال زيارة البابا فرنسيس إلى بغداد مطلع العام الحالي عن امتعاضهم من محاولة ميليشيات الحشد الشعبي الاستحواذ على مناطقهم المحرّرة من "داعش"!
الواقع أنّ إيران اليوم كما نظام الأسد الأب والإبن يريدان المسيحيين أدواتٍ في مشروعهم السياسي بغية التعبئة الطائفية ضدّ السنّة العرب، وبهدف مخاطبة الغرب حيث تتبنى تيارات يمينية ويساريّة "مظلومية الأقليات" لأهداف سياسيّة تتصلّ في الصراع على السلطة في بلدانها ولاسيّما في ظلّ تفاقم النزعات الهوياتية في الغرب.
بالتالي فإنّ تحالف الأقليات بقيادة إيران هو تحالف سياسي هدفه التمكّن من السلطة ولو على حساب تدمير المجتمعات والدول، بدليل الأوضاع المأسوية في العواصم العربية الأربع التي قالت طهران أنّها تحكمها، فضلاً عن أن النظام الإيراني يضحّي بمصالح شعبه الذي تتخطى نسبة الفقر فيه الـ60 في المئة، لكي يموّل ميليشياته في المنطقة. وأمّا في لبنان فإنّ تحالف عون – حزب الله قاد الدولة إلى الإنهيار وهو يواصل تعميق عزلة لبنان العربية بغية تغيير هُويته السّياسية.
فالمسيحيون اللبنانيون الذين كانوا رواداً في النهضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر يدّعي تمثيلهم في السلطة اليوم التيار الوطني الحر الذي يقودهم في طريق معادية للعرب وفي مقدمتهم السعودية التي تشهد نهضة إقتصادية غير مسبوقة، وقد أصبحت أحد أهمّ المراكز العالمية للابتكار وصنع السياسات المستقبلية في مجالات الإستثمار والتنمية المستدامة والبيئة والعمران على مستوى المنطقة والعالم.
وهنا تكمن خطورة السياسات التي يتبّعها الرئيس عون والتيار الوطني الحر، بوصفهما جزءاً من تحالف الأقليات في المنطقة، على اللبنانيين وخصوصاً المسيحيين منهم. فهما وضعا لبنان في صلب محور معزول وفاشل إقتصادياً ووضعا المسيحيين بالتالي على طريق الهجرة الجماعية هرباً من جهنّم التي بشّر عون اللبنانيين بها.
لكنّ عون وتياره لا يمثّلان كلّ المسيحيين اللبنانيين، فهناك انقسامٌ مسيحيّ حول خيارات العهد والتيار الوطني الحر لكنّه انقسام لم يؤدّ إلى تصحيح المسار السياسي للمسيحيين بعيداً عن تحالف الأقليات وتبعاته السياسية والاقتصادية الكارثية عليهم. وهذه مسؤولية مسيحية بالدرجة الأولى لكنّها أيضاً مسؤولية لبنانية عامّة في تصحيح المسار السياسي للدولة اللبنانية. وإلّا سيظلّ يخرج وزراء ونواب ورؤساء يؤيدون الحركة الإنقلابية في اليمن بقيادة جماعة أنصار الله الحوثية التي تموّلها إيران وتمدّها بالأسلحة بوصفها ذراعاً عسكرياً إيرانياً متقدّماً على الحدود الجنوبية للسعودية تستخدمه طهران لتهديد أمن المملكة!