بعد إقحام حزب الله للاختلافات الثقافية بين اللبنانيين في قلب حملته الإنتخابية يتبيّن أنّ الضوابط القانونية والدستورية للحملات الإنتخابية هي لزوم ما لا يلزم؛ أو بأقلّ تقدير هي غير متناسبة مع استعدادات القوى السياسية لاعتماد خطاب انتخابي يخرج عن أساسيات الإجماع الوطني التي تقوم في جزء رئيسي منها على عدم التمييز بين اللبنانيين في أنماط عيشهم.
ما يفعله الحزب عندما يصنّف اللبنانيين أخلاقياً وفق أنماط عيشهم المختلفة هو فعل غير مسبوق في تاريخ لبنان، أقلّه عندما يصدر عن حزب بهذا الحجم. فإذا كانت القوى السياسية لا تتورّع عن استخدام كلّ أدوات التعبئة في المعارك الإنتخابية بما في ذلك اللعب على المشاعر الطائفية والمناطقية فإنّ الحزب ذهب بعيداً في شيطنة نمط عيش غالبية لبنانية من جميع الطوائف والمذاهب والمناطق.
أكثر من ذلك فهو أعطى أنماط الحياة الشخصية للبنانيين طابعاً طائفياً. بمعنى أنّه ماهى بين نمط عيش كل شخص في لبنان وبين طائفته. وهذا إضافة إلى كونه يشكّل اختصاراً فاضحاً لتركيبة شخصية الإنسان في القرن الواحد والعشرين، فهو يدفع بالاختلاف بين أنماط العيش إلى مستنقع الطائفية، وكأنّه يوحي بأنّ ثمّة صراعاً ثقافياً – حضارياً – طائفياً في لبنان. وهو ما يعدّ قنبلة موقوته كفيلة بدفع الإجتماع اللبناني نحو الإنفجار في أيّ لحظة.
الواقع أنّ خطاب الحزب هو ارتداد لشعوره بفائض القوّة الذي يتحوّل، ويا للمفارقة، إلى دليل على هشاشة حضور الحزب في الإجتماع اللبناني، ما دام يميّز بين اللبنانيين وفق أسلوب حياتهم كأنّه يكرّس نفسه حالة انعزالية بينما يتهمّ الآخرين بالإنعزالية.
هذا مفترق جديد في الحياة السياسية والوطنية، إذ يدلّ إلى أن لبنان ما عاد ذلك البلد الذي يمكنه استيعاب وإدارة تعدّدياته كما حصل على مدى مئة عام بالرغم من كلّ إخفاقات هذه التجربة، بيد انّ لبنان لم يشهد حالات راديكالية من الصراع بين أنماط العيش. أو بعبارات أخرى فإنّ اللبنانيين لم يخوضوا معارك ثقافية ضدّ بعضهم البعض بالرغم من اختلافاتهم.
وإذا كان ثمّة من يقول إنّ لبنان لا يمكنه أن يشكّل استثناءً في سياق "صراع الحضارات" حول العالم، فإنّ الخطير في الحالة اللبنانية أنّ البلد يفقد تدريجاً مقوّماته الإجتماعية والقانونية في ضبط أي نوع من أنواع صراع الثقافات أو الحضارات خصوصاً أنّ هذا الصراع يتحوّل إلى عامل سياسي – طائفي. بينما في بلد مثل فرنسا يشهد منذ سنوات تفاقماً لصراع الهويات - وهو ما ظهر بقوّة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة - فإنّ هذا الصراع يبقى مضبوطاً بسقف المبادئ الجمهورية العلمانية. ولا ننسى أنّ تقاليد السجال السياسي - الاجتماعي في فرنسا قادرة على امتصاص راديكالية الطروحات الهوياتية، بينما ليس في لبنان تقليدٌ من هذا النوع.
الواقع أيضاً أنّه لم تعد تكفي أي توضيحات لحزب الله حول ما يصدر عنه من تصنيفات أخلاقية للبنانيين، إذ لطالما وضع أنماط عيشه مقابل أنماط عيش الآخرين. فهو يريد أن يختار أنماط عيشه بحريّة يكفلها الدستور لكنّه يضيق باختيار الآخرين أنماط عيشهم بالحريّة نفسها. وهذه أعلى مراتب الهيمنة السياسية والثقافية ولم يسبق للبنان أن شهد مثيلاً لها.
وإذا كانت لغة التقسيم والفيديرالية قد أصبحت جزءاً من الخطاب السياسي اليومي فإنّ ما يقوم به الحزب لهذه الناحية يتجاوز في راديكاليته كلّ الطروحات الفيديرالية والتقسيمية، ثمّ يقول إنّه ضدّ التقسيم والفيديرالية. لكن الأخطر أن خطاب الحزب ليس فقط وصفة مناسبة للتقسيم وإنما وصفة مثالية للإنفجار بعد الإنهيار!