لبنان صار مُقلقاً ومضطرباً . مصدر القلق والإضطراب يتأتى من خيارات اللبنانيين . أو قل سكوتهم عن خيارات أخذها بعضهم ، وتواطىء عليها بعض آخر، وسكت عنها البعض الثالث. وكل هذه الخيارات من النوع الصعب والمستحيل . طبيعتها متساوية في خطورتها وتطرح مسألة وجودية على لبنان. لكن معالجتها ينبعي أن تتم وفق أولويات وبديهيات السياسة.
أولى هذه الأخطار ، مصدره الوصاية الإيرانية على البلد وهيمنة حزب الله بسلاحه على القرار الوطني حد بلوغه تعطيل الحياة الدستورية لسنوات في سدتي الرئاسة الأولى والثالثة ، ناهيك عن فصل لبنان عن محيطه العربي والانقلاب على الدستور والطائف ووضع لبنان في مواجهة دولية تمثلت بالخروج على قرارات الشرعية الدولية
أما ثاني هذه الأخطار، فيتمثل بالانهيار النقدي والمالي والاقتصادي الذي أفضى حتى الساحة إلى ولوج مرحلة المجاعة في طورها الأول ، في ظل انكفاء حكومي مهول عن تقديم خطة انقاذية تمنع الانفجار الاجتماعي الآتي لا محالةً في ظل الارتجالات السياسية ، وأشدها فقاعة مطالعات رئيس مجلس الوزراء حسان دياب الشعبوية وأسوء ما فيها اطلالته الأخيرة ومخاطبة حاكم المصرف المركزي عبر الشاشات .ناهيك عن استنكاف غير مبرر على الإطلاق في طلب تدخل صندوق النقد الدولي ، مع ما يمكن للأخير أن يقدمه تقنياً ومالياً لإنعاش لبنان الذي دخل مرحلة الغيبوبة اقتصادياً .
وإلى هذا وذاك ، هناك جائحة كورونا وما خلفته وستخلف المزيد منه في الأيام المقبلة طالما أنه لا ترياق لهذا الفيروس حتى الساعة. ويحصل ذلك فيما القطاع الصحي الخاص الذي بنى ما بناه وجنى ما جناه من أموال المؤسسات الحكومية الضامنة (الضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة )يتملص من دوره وواجباته العلمية والأخلاقية ، تاركاً القطاع الصحي العام المتردي أساساً جراء اهماله ينوء تحت وطأة جائحة عالمية .
ثلاثي الأخطار هذا معطوفاً على السياسات الحكومية التي لم تخرج من الحاضنة الإيرانية ولا من قبضة الحزب الخميني يحسم بأن أسس "الجمهورية الثانية" على مبعدة قصيرة من أن تتهاوى، ومعها النسيج الاجتماعي الوطني الذي راح يتفسخ ، وذلك منذ تنكب حزب الله أدواراً إقليمية تبدأ من بيروت وصلاً الى اليمن مروراً بسوريا والعراق ومعهما التلاعب بفصائل فلسطينية معينة . وكل ذلك يجري في سبيل انقاذ إيران من تعثرها ووقوعها في قبضة العقوبات الدولية جراء سلوكها العدواني ضد الدول المجاورة.
وما يزيد الأمور إضطراباً وقلقاً هو السكوت المطبق على معدلات الفقر التي ترتفع بسرعات ضوئية ، مصحوبة بمعدلات موازية من البطالة جراء بنية اقتصادية خدماتية ما عادت تصلح لأسباب أمنية سببها حزب الله . وأيضاً لأسباب نقدية بعد التدهور الاقتصادي التدريجي الذي راح يكبر حتى صار انهياراً بكل ما للكلمة من معنى .
كُل ما حصل حتى الساعة من مآسٍ مهولة ، لم يحرك المنظومة السياسية ولم يحفزها على التفكير للعمل على الصعود من عمق الهاوية التي سقطنا فيها . لا بل بالعكس ، فقد استعرت المناكفات الشخصية وتصفية الحسابات السياسية ، وحولت النقمة الاجتماعية عليها نحو النظام المصرفي الذي يكاد يكون القطاع الأوحد الذي يُعتد به بعد الجيش اللبناني والمؤسسات الأمنية.وما يستدعي التنبه إليه قبل غيره ، هو اتساع رقعة الاضطرابات الأمنية المتمثلة في استهداف فروع مصرفية في المناطق بقنابل المولوتوف ، وذلك بعد شحنٍ غير بريء ولا تفسير له تم تنظيمه ضد النظام المصرفي كله .
ما وصل إليه لبنان لم يكن وليد لحظته . ولا هو هبط على اللبنانيين من السماء فجأة . بل هو نتيجة لسياسات متعاقبة ومتراكمة جراء سوء الأداء الحكومي لسنوات ، مصحوباً بغياب المجلس النيابي عن دوره الأساس في المساءلة والمحاسبة . وقد أفضى هذان النقصان السياسيان ، الحكومي والنيابي ، إلى عطبٍ ضرب ويضرب نظامنا الاقتصادي الحر . ففي أيام النمو يتبارى زجالو السياسة بالتباهي بالقطاع المصرفي وفضائله على البلد وعلى المواطنين وسائر المودعين . وفي ايام الانتكاس يتبرأ الجميع ويصبحون أصحاب أفكار وفلسفات إجتماعية لا تغني ولا تسمن من جوع.
ما يجري لن يقود اللبنانيين إلا إلى الموت . وقبل بلوغ هذه المرحلة أمام اللبنانيين الكثير ليفعلوه بدءاً من تصحيح خياراتهم الوطنية والعودة الى الدستور واتفاق الطائف والتزام قرارات الشرعية الدولية ، وصولاً إلى إسقاط المشاريع الأمنية والسياسية التي يقودها حزب الله غير عابىء لا بشراكة وطنية ولا بعيش مشترك تريده غالبية لبنانية.
كمال الأسمر – كاتب سياسي