يخاطب العالم اللبنانيين بلغة من اثنين:
- إمّا الذهاب إلى حارة حريك.
- أو تقديم أوراق اعتماد عند مندوبٍ سامٍ فرنسيّ.
هذا ما أكّده بيان "المعارضة" الصادر أمس عن 31 نائباً في مجلس النواب اللبناني.
البيان يفيض صحّةً في ارتكازه على شرعيّات الطائف والدستور وقرارات الشرعية الدولية. وهو يلاقي بيان اللجنة الخماسية الصادر عن الدوحة التي يحفظ لها اللبنانيون عن ظهر قلب بدعة "الثلث المعطّل". بيان كهذا صار يستدعي من الحزب الوقوف للحظة والتفكّر لبنانياً في ما ستؤول إليه الأحوال.
هناك ما يشبه لحظة صدور القرار 1559، من دون أن يعني أيّ تماثل في الوقائع. لكنّ هناك ما يستدعي التوقّف مليّاً. العالم يخاطبنا جميعاً من دون أيّ تمييز. وفي رأيه أنّنا كلّنا متحجّرون كجبال الصوّان عند "اختراع" الرحابنة.
هذا العالم يرى أنّ اللبنانيين متحاصصون. صحيح. ولا مكان للعلمانيين، ولا مكان للمؤمنين غير المتحجّرين، وكذلك للّاطائفيين. ومثل هؤلاء صار يستحيل تشكيلهم الآن في أكثر اللحظات حراجة.
رغبات لبنانيّة بدائيّة
يُشاع في "الأوساط السياسية"، ويصدّق اللبنانيون استناداً إلى بداهة فطرية بالسياسة، أنّ ثمّة مظلّة حماية وارفة للبنان. هذه عادات لبنانية وشغف أصليّ عند اللبنانيين في حبّ "المصادر" و"المطّلعين" و"العارفين" و"نقلاً عن مسؤول مطّلع".
على الأرجح، وبحسب اعتقاد لبناني عميم أيضاً، أنّ ما تقوله "الأوساط السياسية" سيمنع البلد من الولوغ في ما اعتاد الولوغ فيه من دم واغتيالات. هذه المرّة، علينا أن نشكر الخارج، الذي لطالما كلّفنا بشنّ الحروب نيابة عنه ونذرنا للدمار والموت، من أجل نصرة قضايا كبرى لطالما كانت أكبر من قدرتنا على التحمّل.
إنّما ما الذي يجعل اللبنانيين أنفسهم لا يتورّعون عن استئناف مقتلتهم المتنقّلة التي تتغيّر أسماؤها وتبقى مسمّياتها؟
آخر الإثباتات على ذلك ما حدث في الكحّالة. ثمّة رغبة لدى بعض اللبنانيين في الذهاب أبعد من التساؤل. وهذا حقّ. لكن يستحيل تحصيله في ظلّ بدائية سياسية تمعن في تسييل العبارات والمفردات التعبويّة على ضفّتي البلد.
هشاشة المعارضة وتمثيلها
يعلن الكلّ ويكرّر أنّه لن تحصل فتنة. ولن ننجرّ إليها. هذا ما يقولونه دعاة التمثيل الشعبي اللبناني. واحِدُهُم يَردح أقلّه بما يمثّل ومن يمثّل إذا استعصى عليه تمثيل كلّ لبنان. هذا اللبنان لن يمثّله أحدٌ حصريّاً. جميعهم ينادون ويعلنون مراراً وتكراراً ضرورة العودة إلى الحوار، وليس طاولته طبعاً، بحسب بيان "المعارضة" الذي يرفض الحوار مع الحزب قبل الانتخابات ويقبل به بعد الانتخابات.
استطراداً على الأصل السياسي فهذه إحدى أكثر نقاط "المعارضة" ضعفاً، بعد الأهمّ وهو افتقاد نواب شيعة بين الـ31، بعدما حرص "الثنائي الشيعي" على منع الانتخابات "الجدّيّة" في مناطقه، بالترغيب والترهيب والقانون الجديد.
تشكيل منصّة داخلية تلاقي خارجاً ما هي حرفة ودراية لبنانية أصلية. لكنّ اللحظة السياسية الآن هي غير تلك التي سادت عشايا عام 2005 والمقتلة الرهيبة التي نزلت بالرئيس رفيق الحريري. هذا يستدعي تنبّهاً لا تهوّراً سياسياً قد يأخذ البلد إلى ما لا يُريده أهله وجماعاته الأهلية بغرائزها المذهبية.
الناطق الأوحد
وحده رئيس حركة أمل والبرلمان في آن نبيه برّي يقول من "محبسه النيابي" آناء الليل وأطراف النهار: قولوا ما تشاؤون، لكنّ "لبنان محميٌّ". يفرح للقاء إيراني ـ سعودي بضمانات صينية، لكنّه لا يفصح للّبنانيين عن عوائد هذا اللقاء على البلد وأهله المتنافرين في كلّ شيء.
بلغت المشكلة استعصاءً حادّاً. ذلك أنّنا نحن اللبنانيين ما عدنا نصدّق شيئاً صدر عن هذا المسؤول أو ذاك. ألا نصدّقهم لعلّة فينا أم فيهم، أم لعلّةٍ في مكان آخر؟
المسؤولون عندنا يصمّون آذاننا يومياً عن أنّه لا داعي للخوف: المسألة تتعلّق بعشرات.
لنذهب أبعد من ذلك قليلاً. لقد أجمع سياسيون "مأذون لهم ومطّلعون" ممّن تعشقهم البدائية السياسية اللبنانية، وهم مطّلعون على بعض الخفايا إقليمياً ودولياً، على أنّ خطاب الأمين العامّ للحزب الأخير كان تصعيدياً ضدّ كلّ شيء بدءاً من الإعلام وصولاً إلى اليمن.
"المعارضة"، على ما يحبّ أهلها تسميتها، بوصفها اليوم ليست معارضة ولا موالاة لأنّها ستحاور الحزب لاحقاً ثنائياً وثلاثياً، تكرّر وتعيد ما هو ممجوج بالسياسة، ولا تقول للّبنانيين ما هو اقتراحها للخروج من الأزمة الوطنية العامّة.
المعارضة، بتركيزها على اللامركزية الإدارية والماليّة، إنّما تخاطب غرائز ولا تفتح ثغرها بالسياسة وبوضوح لتقول إنّ لبنان محتلّ من إيران عبر أذرعتها.
حسناً مرّة أخرى، إلى أيّ مجلس سياسي أو قضائي يجدر باللبنانيين أن يحيلوا شكواهم، وهم المتروكون أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا حارة حريك، أو الانحناء أمام المندوب السامي؟
*عن أساس-ميديا