لم أكن أتصوّر يوماً أن "حزب الله" جاهلٌ إلى هذا الحدّ في السياسة الداخلية اللبنانية، وخصوصاًفي فهم هذا البلد.
أنا شخصياً أنتمي إلى جيل شاهد سلاحاً غير شرعي يتحكّم بمصير اللبنانيين منذ العام 1969.
وأشهد أن أبو عمّار كان يدرك أن شعبه المقيم في مخيمات اللاجئين ومن ثم سلاحه بعد اتفاق القاهرة وأخيراً حركته العسكرية انطلاقاً من جنوبي لبنان نحو اسرائيل، كل هذا كان يزعج اللبنانيين.
لكنّه سارع إلى "كسب وِدّهم"، وحاول بنجاحٍ ملحوظ توسيع مساحة صداقات الثورة الفلسطينية في لبنان. فدعم الحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط، وعمل على احتضان النخب الثقافية من اعلاميين وقادة رأي وتوصّل إلى توزيع منح جامعية في قرى مارونية مباشرو أو بواسطة الحزب الشيوعي اللبناني... حتى وصلنا إلى العام 1975. وكان هناك شريحة عريضة من اللبنانيين تدعم الثورة الفلسطينية وسلاحها غير الشرعي على حساب منطق الدولة الشرعية.. وحتى خصوم ابو عمار من المسيحيين ظلّوا يعتبرون القضية الفلسطينية مقدسة، ولكن سلاح المقاومة غير مقدّس.
بعدها أتى حافظ الأسد، بمباركة أميركية- عربية وتولّى تنفيذ الطائف وفقاً لمصلحة سوريا وعلى حساب المصلحة اللبنانية.
وأدرك الرئيس الأسد أن سلاحه في لبنان غليظٌ على اللبنانيين فحرص على توسيع رقعة صداقاته فيه، وقال للمسيحيين أنه على حلفٍ معهم في مواجهة الغالبية السنية واكّد للسنة أنه صديقهم بدليل دعمه للرئيس رفيق الحريري بعد مقاطعة انتخابات 1992. ودعم الشيعة بوصفهم الطائفة الحليفة بامتياز، ولم يتخلَّ عن صديقٍ استراتيجي أو "بلدي" في منطقة بل أكّد وفاء الرئيس الأسد له.
اليوم يشكّل "حزب الله" حالة شاذة في لبنان وبكل المعايير. فهو تنظيم يعلن ولاءه للولي الفقيه في ايران على حساب ولائه للبنان، وهو يتحكّم بمفاصل الدولة بقوة سلاحه غير الشرعي، وهو أيضاً متّهم بقتل شخصيات وطنية وقامات سياسية بدءاً بالرئيس الشهيد رفيق الحريري. كما هو متورّط في قتال المنطقة ويعرّض لبنان للأزمات مع المحيط العربي ومع العالم.
وبدلاً من توسيع مساحة صداقاته فهو يقوم بالعكس تماماً.
لماذا؟
لماذا يستمرّ "حزب الله" في تجاهل شكوى اللبنانيين؟
لأنه ببساطة مصابٌ بانتفاخ العظمة (الميغالومانيا) والتعالي عليهم، فهو بالتالي ليس مضطراً لبذل الجهود لكسب ودّهم.
ولأنه ليس من لبنان أيضاً بعكس ما يظنّ البعض أنه "بلدي"، فلو كان لبنانياً ويعرف لبنان جيداً لكان تصرّف بحكمة!
أما بالنسبة إلى الذين "يكتشفون" اليوم أن هناك "أعرافاً جديدة" تحكم لبنان، فيقول لهم حزب الله: فخامة الرئيس، هذه الأعراف هي التي أوصلتكم إلى بعبدا، لا يمكن أن تكون جيّدة البارحة وسيئة اليوم!