كما كانت حياة لقمان سليم شاهدة على أفكاره ولغته وحيويّته وحبّه للعدل والسلام، هكذا كان موته شاهداً على كلّ القيم التي حملها وجسّدها في أعماله الكثيرة. لقد تحوّل بيت لقمان في حارة حريك منذ لحظة اغتياله منصّة لهذه القيم التي تشاركها لقمان مع أهل البيت، أمّه وزوجته وشقيقته اللواتي عرفنَ ماذا يريد لقمان منهنّ: أن يبقوه حيّاً في "فردوسه الأعلى بطلاً من لبنان".
لقد اغتيل لقمان في أشدّ الأوقات قتامة، فالدولة مفككة والاقتصاد منهار والمسؤولون يظهرون أسوأ ما فيهم، كما بدأت غالبية اللبنانيين تفقد الأمل في بلدها. إلّا أنّ المشاهد والكلمات الصادرة من بيت لقمان كانت، وبالرغم من الألم والخسارة، تبعث على الأمل بلبنان لأنّها كانت تعيد تركيب الذاكرة اللبنانية وتظهر ما فيها من جمال وتنوّع وغنى.
فلُقمان الذي خصّص حزءاً مهمّا من حياته للعمل على تنقية الذاكرة اللبنانية من تبعات الحروب وجراحها وانقساماتها كان موته فعلاً إحيائياً لهذه الذاكرة التي يريد قتلته طمسها والتأسيس لذاكرة بديلة.
بالتالي نحن اللبنانيين مدينين لهذا البيت الآن لأنّه أعاد التأكيد على ما تختزنه التجربة اللبنانية من قيم وجمال في لحظة تشكيك قصوى بهذه التجربة لا بل في عزّ المحاولات الحثيثة لطمسها.
لقد أعطى أهل لقمان صورة عن لبنان معاكسة تماماً للصورة التي يريدها قتلته له. فالتقدير الذي أظهره كثير من اللبنانيين لأمّ لقمان وشقيقته وزوجته هو في العمق فعل سياسي قوامه أنّ هؤلاء اللبنانيين متمسّكون بلبنان كما أراده لُقمان وكما عبّر عنه أهله. وهذا كلّه هزيمة للقاتل.
كذلك فإنّ الغالبية اللبنانية التي لم تعد تتناقل تصريحاً لمسؤول سياسي إلّا للاحتجاج عليه ورفضه تناقلت بكثرة كلام أهل لقمان بإحترام واعجاب، وهذا تأكيد إضافي على اللاشرعية الشعبية للسلطة الحالية التي باتت فوق الشعب وليست منبثقة منه.
عليه فإنّ بيت لُقمان سليم هو الآن قصر الشعب اللبناني وليس أي مكان آخر، ما دام هذا البيت يجسّد اليوم النقيض الفكري والسياسي لقتلة لقمان وللسلطة السياسية التي تمعن في تخريب الدولة وتفكيك المجتمع.
فإذا كان هدف القاتل من اغتيال لُقمان دفع المجتمع إلى الخوف والاستسلام، فإنّ الردّ الشعبي والسياسي على هذا الاغتيال يجب أن يكون بالتمسّك بقيم الحرية والعدالة والسلام التي آمن بها لقمان والتي دافع عنها أهل بيته بعد اغتياله.
وهذا التمسّك هو الفعل السياسي الرئيسي الآن في مواجهة القاتل والسلطة معاً، وذلك عبر خلق دينامية سياسية وشعبية وإعلامية تعيد التأكيد بوضوح وقوّة على المبادئ الأساسية التي قام عليها لبنان وهي استقلاله ووحدة كيانه الجغرافي وحريّة أبنائه ومساواتهم أمام القانون. فالقاتل يُواجَه بإحباط أهدافه وهي احتلال لبنان وتفكيكه بعزل أهله عن بعضهم ومناطقه عن بعضها وتقييد حريات اللبنانيين وإسقاط أحكام القانون للإفلات من المحاسبة.
لقد كانت رسالة أهل لقمان للقتلة واضحة: لن نتخلّى عن قيمنا وعن صورتنا عن لبنان. وهذه الرسالة هي بمثابة مانيفست تأسيسي للمعارضة الشعبية والسياسية الآن. فمثلما يغيّر القاتل أدواته واهدافه فإنّ معارضيه يجب أن يبدّلوا في المقابل أدواتهم وأهدافهم، وإلّا فلن يفوزوا في المعركة.
نعم، اللبنانيون الذين يرفضون احتلال بلدهم وحكم الغلبة وإستقواء السلاح ليس أمامهم سوى تأطير أنفسهم شعبياً وسياسياً للدفاع عن أنفسهم وتحرير بلدهم، وهذان أمران متلازمان لأنه لا حرّية تحت الاحتلال.
لقد أراد القاتل من خلال اغتيال لقمان اغتيال السياسية أيضاَ، ولذلك الردّ عليه هو في إحياء السياسة من خلال أعادة التركيز على أولوية تحرير لبنان والتمسّك بوحدة كيانه، وذلك قبل أي شعارات جانبية أخرى.