جديد المنطقة العربية، الذي يبعث على أملٍ ما، هو إحلال المفكّرين والمثقّفين مع بعض الأنظمة لشعار "نظام المصلحة العربية". العنوان السياسي الجديد هذا حلّ بدلاً من "العروبة الموهومة" التي قامت على أفكار أيديولوجية كانت سبباً في خسائر كثيرة وكثيفة. وهذا المعنى الذي اشتقّه "إعلان الرياض" عن العروبة الحديثة عام 2008 خلال انعقاد الجامعة العربية كان على شيءٍ من التنوير الذي غاب عن العرب عقوداً من الزمن.
يمكن القول إنّ العروبة الجديدة بدأت تحيط شعوبها بسياسات الدفاع عن مصالحه، ضمن نظرية "نظام المصالح" الذي يحرّك القيادة السياسية، بدل "مصالح النظام" الذي كانت الأنظمة العربية السابقة تنطق سياساتها منه.
أسقط التنوير العربي الجديد ما جاهر به مفكّرون من أمثال محمد عبده ورشيد رضا والكواكبي وشكيب أرسلان. هؤلاء نسبوا أنفسهم أو نُسبوا إلى "جيل النهضة". أجمعوا هم وأقرانهم على سؤال كان عاقر الإجابة: ما السبيل إلى الترقّي والتمدّن ردّاً على الاستعمارات المتعاقبة؟ الردّ جاء بعنوان اشتباكي من حركة قومية تعدّدت مسمّياتها. السوء كان في إجابة مقتضبة حملت ضموراً في الرؤية ومفادها: "الوحدة العربية".
حمَلة شعار "العروبة الموهومة"
ليس في هذا السجال افتئاتاً على الواقع. ذلك أنّ حمَلة مشروع "العروبة الموهومة" أنزلوا ما أنزلوه من تصديع للديمقراطية، فأخّروا "العرب" في أوطانهم ودولهم سنوات ضوئية عن التحضّر والتمدّن. في التاريخ بعيده وقريبه "السؤال" المستمرّ عن "العروبة" حمله ثلاث قوى:
1- حزب البعث العربي الاشتراكي بشقّيه السوري والعراقي: أنكر هذا الحزب، الذي أقام نظام أقليّات بعنوان "العروبة"، حتى حقّ التنوّع الثقافي على أقلّيات إثنيّة مثل الكُرد عاشت في كنفه حيث انتشر، لأنّ العنوان الوحيد المقبول العمل في ظلاله هو: "أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة". فالبعث في العراق وسوريا كان يصدّر التظاهرات بمواطنين أكراد ليهتفوا "بوحدة الأمّة ورسالتها الخالدة". كان ذلك باعثاً على هزلٍ شديد. على الأقل حتّى حصول الرّبيع العربيّ وما لحقه من اهتزازات.
2- الناصرية: وقمعيّتها المُفرطة في التعميم السياسي. صحيح أنّها مصرية النشأة والولادة، لكنّ عدواها انتقلت إلى لبنان والفصائل الفلسطينية، ووصلت إلى بعض دول المغرب الغربي. العدوى هذه كان أبرز أسمائها: حركة القوميين العرب. الجَمع "القوميون العرب" بمعناه اللغوي عبّر عن ذاته بشعارات سياسية هي النضال من أجل الوحدة العربية والتحرّر الوطني في مواجهة التجزئة. كانت التجزئة المقصودة تستهدف الدول والكيانات العربية تحت عناوين اللغة والإفراط في الحديث عن التاريخ والجغرافيا، وأحياناً تمّ إقران "الدين الواحد" لتعزيز الدفع الأيديولوجي للفكرة.
3- القومية السورية: إذا كان المفكّر أنطون سعادة لم ينادِ بالوحدة العربية، فقد اخترع قوميّة من طراز غريب سمّاها "وحدة سوريا الطبيعية"، وتشمل إلى سوريا: لبنان والأردن وفلسطين، ثمّ ضمّ إليها العراق والكويت وقبرص، من دون أن يشرح الجامع بين هؤلاء إلا استناداً إلى فكرة جيولوجية.
هذا "المثلّث" على تضادّه السياسي الذي عرفه لاحقاً، حيناً مع منظمة التحرير في الأردن ولبنان، وأحياناً مديدة بين البعثية والناصرية، ثمّ في المغرب والجزائر، فإنّه أبقى على الخليج والجزيرة خارجاً. وبهذا المعنى كانت هذه العروبة معادية للخليج، قلب العروبة الحيوي حينها واليوم، أكثر منها تقدماً وتمدناً.
"العروبة" وعنفها الأيديولوجيّ.. وموتها
ليس افتراءً على الحقّ القول إنّ "العروبة الأيديولوجيّة" التي سادت دهراً كان تاريخها كلّه محناً. لقد تخضّبت تجربتها بسفح الدماء وفتح المعتقلات وتسيُّد أجهزة الاستخبارات أكثر من فعّالية البرلمانات. سلوكها المديد هذا كان سبب ولادة الإسلام السياسي المشابه لها في اعتناق العنف. هي أصلاً لم تفعل شيئاً غير تصديع بنيان الدول حيث تسيّدت. قمعت على الدوام الديانات والإثنيّات. مفردات من نوع حقوق الإنسان لم تجد لها مكاناً في قواميس ومانيفست هذه "العروبة الأيديولوجية".
كلّ النُبذ عنها كانت تدلّ على أنّ فكرة "العروبة الأيديولوجية" بوجهيها التوحيدي والتحرّري تعاني أزمة تاريخية عميقة، فهل يعني ذلك أنّها انتهت فعلاً ولا بدّ من دفنها كما يرى كتاب "وداع العروبة" لحازم صاغية الذي اتّسم بشجاعة فكرية بقوله: "لقد ماتت الدعوة الوحدوية فعلاً، وكان اجتياح صدّام حسين للكويت آخر الأنفاس التي لفظتها. وبهذا المعنى ليست الكتابة عنها مشاركة في ردّ خطر غاشم يتهيّأ للانتشار والسطوع. ومع ذلك فالأمر ليس، في المقابل، طعناً في جثّة لأنّ المطلوب وداع الميّت والاعتراف الصريح بموته".
العروبة الحديثة وخياراتها الحرّة
الأرجح أنّ أفضل ما أنتجه الفكر السياسي العربي الحديث كان في إعلان الرياض الذي أوجد عروبة حداثوية تنهض على نظام المصلحة الوطنية للدول العربية. الإعلان جاء ليمسح "المثلّث القومي" الموسوم بتراجعات عديدة في السياسة والاقتصاد. هذا المثلّث إذ يزعم التحرّر من الكولونيالية، وهذا فيه شيء من الصحّة، فجذره في تطوّر الفكر السياسي عند الدول المُستعمِرة.
لنتخيّل استقلال لبنان وعديد رجالات الاقتصاد وقلعة راشيا الرمز. مثل هذا الخيال يبعث على الابتسام. خروج الجيش البريطاني من مصر جرّاء الدعم الأميركي للأخيرة يبعث على الضحك. قيادة سلطان الأطرش لحرب كانت بدافع الخصوصية أكثر ممّا كانت مشحونة بالقومية الأيديولوجية.
نظام المصلحة العربية الحديث في أدبيّات الفكر السياسي يعني الاعتدال والقدرة على تحقيق بعض من الشخصية العربية، استناداً إلى المبادرة السياسية والمشاريع التنموية ووفقاً لما هو حاصل في السعودية والإمارات ومصر والغالب من دول عربية تمضي قدماً على هذا الخطّ. بهذا المعنى فإنّ نظام المصلحة العربية على معناها العريض في السياسة والاقتصاد والتنمية يذهب نحو الواقعية، ويبتعد عن الأحلام، إن لم نقل الكوابيس.
الأهمّ في نظام المصلحة العربية أنّه صار يأخذ بمصادر السياسة. هو أكثر ارتباطاً بالبنى التحتية من البنى الفوقية في قراءتها للعروبة. وهو أيضاً يلبّي احتياجات العرب كأفراد أكثر من كونه حاجة لمنظومة العسكرة والانقلابات الدموية والمعتقلات السياسية المفتوحة على غاربها لكلّ من يجد سبيلاً لـ"لا".
سقوط الأيديولوجية وموتها
أخطأ العرب كثيراً في استنساخ النموذج الألماني والنمساوي لمفهوم القومية. صحيح أنّ عند هؤلاء مسألة العرق هي الأساس، لكن ليست لديهم توازنات أهلية وعصبيّات الجماعة والقبيلة. العروبة المؤدلجة عندنا نهضت على كراهيات الاستعمار.
افترض الداعون إليها أنّ اللغة والدين هما عصب نهوضها. هذا لم يكن صحيحاً لأنّها أوّلاً وأخيراً اصطبغت بطبيعة من نوع معادي للخليج، ربع مساحة الوطن العربي. فقد استثنوا الخليج والجزيرة معتبرين أنّ الاثنين غير صالحين ليكونا من هذه "الأمّة". في الوقائع اللاحقة ثبت أنّ هاتين المنطقتين هما الأقدر على صناعة الدولة الحديثة وإن شابها عيوب أصلية في ما عنى البرلمانات ومقدرتها الفعلية على تطوير الديمقراطية. وإن هي حاكت مصالح الأفراد إلا إنّها بقيت هدفاً يسهل التصويب عليه من الأنظمة الجمهورية التي لم تفعل غير تحقيق أعلى مستويات الخسارة بوجه العدوّ الإسرائيلي.
الرهانات الخائبة
راهن "مثلّث القوميّات" على أنّ الدول القائمة هي جغرافيا مصطنعة لن تلبث أن تنهار مع "الوعي القومي" الذي كان ينقل الداعين إليه من تراجع إلى آخر. وبهذا المعنى رأى حازم صاغية أنّ التصوّرات النافية للدولة أسهمت في جعلها فائضة سلطوياً، أي في نزع معناها الدستوري والسياسي كحاضنة للمجتمع في مؤسّساته المدنية من أحزاب ونقابات واتّحادات مهنية ومؤسّسات إعلامية، والعمل على نشر معناها السلطوي القائم على التفرّد الديني أو السلاليّ أو المناطقي أو العسكري. وبذلك تمّ قتل مفهوم الدولة الحديثة الذي حمله الاستعمار معه، مرّة بنفيه الأيديولوجي، ومرّة أخرى بإلغاء وظائفه المدنية، ومرّة ثالثة بتنظير الوعي وإشاعته حول عدم جدواه.
بعد كلّ الرهانات الخائبة، تبيّن أنّ روافع "العروبة المؤدلجة" قد انهارت بسبب كلّ شيء مرتبط بالحرّيات وحقوق الإنسان والاقتصاد والتنمية. وما ينتجه نظام المصلحة العربية على طريق إثبات شخصيّته السياسية هو ترك الدول العربية تقرّر ما تريده لجهة المقاربات الوطنية. ومن لم يفعل ذلك فهو التحق بمحور الممانعة الذي صار مع ما يتشكّل منه نموذجاً للخراب والتخلّف.
كيف لمن يخسر الأرض على مثال حافظ الأسد وجمال عبد الناصر أن يتمتّع بألقاب "الأبطال"، فيما يُطعن بوطنيّة من يستردّها على مثال أنور السادات وياسر عرفات ويُطلق عليه مصطلح "الخونة". ومثل هذا المصطلح هو الأكثر رواجاً عند العروبة المؤدلجة ومن ورائها محور الممانعة.
*عن صفحة أساس-ميديا