غالباً ما يُقتَل أشخاص في لبنان لأسباب سياسية ويظلّ القتلة مجهولين. أوّل المقتولين كان الرئيس رياض الصلح. آخر القتلى جندي إيرلندي من "قوات اليونيفيل" في جنوب لبنان. بينهما سلسلة طويلة من المقتولين ضمّت كباراً من السياسيين وقادة الرأي، وحصدت رئيسَيْ جمهورية وثلاثة من رؤساء الحكومات وكثرة من مثقّفي اليمين واليسار.
باريس بين بيروت وطهران
العملية التي قتلت الجندي الإيرلندي وجرحت ثلاثة من رفاقه، تحدّث عنها تلفزيون "المنار" معتبراً أنّها حادثة نجمت عن "غضبة الأهالي"، لأنّ إحدى سيّارات دورية "اليونيفيل" مرّت في طريق "داخلية"، وكأنّها تجاوزت حمىً ومسّت حُرُمات وأعراضاً وكرامات وكشفت ستراً "أهليّاً"، فواجه "الأهالي" فعلتها بالرصاص ثأراً لشرفهم وأعراضهم المهتوكة. أمّا السيارة الأخرى، ودائماً حسب "المنار"، سلكت الطريق الدولية فلم تتعرّض لأيّ شيء لأنّها اتّبعت أصول اللياقة والحشمة وصانت أعراض "الأهالي". وهذا يعني أنّ أهالي تلك النواحي قاموا جميعاً بفعل الثأر والقتل، وسيبقى القاتل مجهولاً.
بالطبع، قناة "حزب الله" بمرورها العابر على الحادثة، كانت مهجوسةً بتعريف "الطريق المسموح" للقوات الدولية عبورها، وكذلك تعيين ما هو "غير مقبول" في حسابات هذا التنظيم الأمنيّ الذي تمتدّ أزماته وحساباته وأعماله المتشابكة من طهران إلى بيروت، مروراً بدمشق وبغداد. وهناك في البعيد واسطة العقد، أي فرنسا التي تتقلّب في أدوارها من وسيط إلى طرف. وفرنسا في بيروت غيرها في الرياض، وتختلف تماماً بحضورها في بغداد بعد عقد "توتال إنرجي". وما يستدعي الانتباه في هذا السياق إطلالة وزيرة الدفاع الفرنسية السابقة ميشال آليو ماري التي تحدّثت فيها عن ضغوطات تعرّضت لها المحكمة الدولية قي قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه.
شغلت آليو ماري مناصب عدّة غير حقيبة وزارة الدفاع التي تولّتها من 7 أيار 2002 إلى 18 من الشهر عينه لكن في عام 2007. اشتقّت حياتها السياسية عام 1993 وزيرةً لشؤون الشباب والرياضة. بين التاريخين كانت وزيرة خارجية ثمّ وزيرة داخلية فوزيرة للعدل.
كشفت مصادر خاصة بـ"أساس" أنّ الإعلامي اللبناني طاهر بركة الذي أجرى الحوار مع الوزيرة الفرنسية السابقة كان يمضي في باريس إجازة خاصة ولم يكن يقوم بمهمّة رسمية. وجاء حواره مع الوزيرة الفرنسية من دون تنظيم مسبق أو موعد جرى الاتّفاق عليه، بل هو أُعلِم من طرف ثالث أنّ وزيرة الدفاع الفرنسية السابقة لديها كلام مهمّ عن محكمة الحريري، وتريد الإدلاء به، فأخبر طاهر إدارة المحطّة التي وافقت على إجراء الحوار.
أخطر ما في هذا أنّه يُنشئ نظاماً من تراتب الأحداث والسياقات السياسية التي انتهت إلى ما انتهت إليه الأمور، ويطرح أسئلة مُلحّة عن السبب الذي جعل الوزيرة الفرنسية تطلّ بصفتها وزيرة دفاع سابقة عاصرت اغتيال الرئيس الحريري، وعن كون ما أعلنته هو رسالة "عاجلة غير رسمية" من فرنسا إلى إيران ومن ورائها حزب الله، وهما اللذان يسلفّان المنطقة كلّها بالتعثّر السياسي، وأحد أوجه التعثّرات أنّ إيران لم تطلق بعد سراح 7 رهائن فرنسيين موجودين لديها.
الجيش والكحول ومونو
وصف "حزب الله" القتل في الجنوب بـ"الحادثة". لكنّ ردّ وزير الداخلية بسام المولوي جاء معاكساً إذ قال إنّها "جريمة وليست حادثة". كان المُقلق ما صدر من كلام عن مُفوّه الحزب وفصيحِهِ الشيخ صادق النابلسي الذي قال في تغريدة: "بعض الدول المشاركة في قوات اليونيفيل تعمل وكيل أمن لإسرائيل. وهم الذين يعرفون الطرق والزواريب في لبنان كما يعرفون أبناءهم، لم يكونوا في هذا المكان تائهين، ولم يكن غرضهم الخروج إلى شارع "مونو" لاحتساء الكحول. الخروج عن جدول الأعمال وتجاوز الجيش اللبناني مراراً وتكراراً ليسا بريئين". إذاً "الأهالي" انتقموا أو ثأروا لشرف الجيش اللبناني لتتكامل مقولة حزب الله الذهبية: "شعب جيش مقاومة". أمّا الكحول واليونيفيل معاً فرجس من عمل الشيطان عاجَلَه "الأهالي" بالرصاص.
يُعلن كلام النابلسي الكثير، ويعني الأكثر. فيه ما يشير إلى عودة "الحزب" إلى سيرته الأولى في خطف الرهائن في ثمانينيات القرن الماضي. وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ الكتيبة الإسبانية في الجنوب هوجمت بعبوّة ناسفة قتلت خمسة جنود وجرحت آخرين بعد أشهر قليلة من صدور القرار 1701 عام 2006. وتقاعست الأمم المتحدة، أو قُلْ تجنّبت الاشتباك، فلم تطلب مثول القتلة. وما حدث بالأمس يعني أنّ "اليونيفيل" صارت مهمومة بحماية عديدها لا بضمان أمن الحدود التي اتّفق أنّ "حزب الله" ضَمِنها بحريّاً.
رسالة طاردة لماكرون؟
قامت السرديّة الأصلية لحزب الله على خطف الرهائن الغربيين لـ"إجبار العالم" على مفاوضته. ليس امتهانه الخطف جديداً. وليست علاقته المتوتّرة مع اليونيفيل جديدة أيضاً. سبق أن هاجم في 10 أيلول من العام الحالي على لسان "الوكيل الشرعي" للمرشد الإيراني السيد علي خامنئي في لبنان الشيخ محمد يزبك "القوات الدولية" التي اعتبرها "قوات احتلال" بعد التعديل الذي أدخلته الأمم المتحدة على مهامّ قواتها بموجب القرار 2650 الذي تحدّث عن أنّ "اليونيفيل لا تحتاج الى إذن من أيّ شخص للاضطلاع بالمهامّ الموكلة إليها"، ويسمح لها "بتسيير الدوريات المعلَن وغير المعلَن عنها". كان ذلك التعديل الأوّل على القرار 1701 منذ سنة 2006.
ما حدث جاء في ظلّ معلومات غير مؤكّدة حتى الآن عن زيارة "خاطفة" قد يقوم بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لجنوب لبنان لتفقّد ومعايدة الجنود الفرنسيين العاملين ضمن قوات اليونيفيل، مع العلم أنّه من المؤكّد أنّ مسؤولاً فرنسياً سيزور قوات بلاده في اليونيفيل لمعايدتهم بالسنة الجديدة.
ما حصل خطير جداً ويمسّ بالأمن الوطني اللبناني، ويُهدّد بالتالي وجود القوات الدولية في الجنوب. وهو رسالة "جلفة وحادّة" إلى الأمم المتحدة مفادها أنّ قوات "اليونيفيل" التي تتشكّل من جنسيّات مختلفة ويبلغ عدد عسكريّيها 10 آلاف و521 جندياً، مع موظّفين مدنيين أجانب أيضاً يبلغ عديدهم 257 شخصاً، صاروا "رهائن" بقوّة الأمر الواقع، وسيبقون كذلك ما دامت إيران تُصرُّ على أنّ "الثورة" عندها يقف وراءها الغرب.
أمرٌ واحدٌ قد يقلب هذا المشهد رأساً على عقب: إصرار دوليّ على معرفة القتلة، وأن يسلّم حزب الله هؤلاء باليد اليمنى ليأخذهم لاحقاً باليد اليُسرى. وهو ذو خبرة في هذا الشأن: قتل النقيب سامر حنّا فوق تلّة سجد يؤكّد ذلك.
مع حزب الله ذهبت الدولة ـ الغاية أو الدولة ـ الوسيلة أدراج الرياح. لقد صرنا في دولة "الأهالي"، وهم ذات يوم سرقوا في منطقة الأوزاعي أجهزة الحواسيب المحمولة من لجنة التحقيق الدولية الخاصة بلبنان في تشرين الأول من عام 2010. آنذاك قيل إنّ رئيس فريق المحقّقين الدوليين ذهب إلى عيادة الدكتورة إيمان شرارة الطبيبة الاختصاصية بالجراحة النسائية للحصول على معلومات تتعلّق بزوجة عماد مغنية. قال آخرون إنّ المعلومات المطلوبة كانت تتعلّق بزوجة مصطفى بدر الدين. يا للعار، ويا غيرة الدين... في الحالين أنقذ "الأهالي" شرف القائدين.
لا يحتاج اللبنانيون إلى كبير عناء ليعرفوا باليقين أنّنا المدى الحيويّ لإيران. ذلك أنّ قادة نظام الملالي المفوّهين لطالما صمّوا آذاننا بأنّنا "ساحة وظيفتها إسقاط مشاريع الولايات المتحدة الأميركية" التي هي الوحيدة التي يلهث وراءها الإيرانيون، مرشداً ودولةً وحرساً ثوريّاً. وفي الأثناء لا يفعلون شيئاً غير احتقارنا.
المهمّ الآن أن يتوقّف الجيش ومعه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عن القيام بواجبات التعزية، والذهاب إلى أداء دورهم ووظيفتهم، أي البحث عن القتلة الفعليّين.
ما الذي يمنع السيّد ميقاتي من أن يطلب عقد جلسة طارئة بندها الوحيد الجندي الإيرلندي المقتول؟ كاد أن يهتزّ البلد قبل أيام بسبب جلسة للحكومة تُشبه طعام المستشفيات: لا طعم، ولا رائحة، ولا لون. فهل يجرؤ قائد الجيش جوزف عون على القيام بواجباته أم غواية "الترشّح للرئاسة" ستمنعه؟
ننتظر نتائج التحقيق العلنيّة هذه المرّة...
*نُشر على صفحة اساس-ميديا