المشهد كان باهتا رتيبا، لا بل بائسا، جمع "جحا واهل بيته" ! لذلك كان بامكانهم ان يلتقوا في مكان اكثر حميمية، في خلية حمد مثلا، او حتى في حارة حريك مباشرة طالما ان القرار يعود لها. وجوه كالحة لم تعد قادرة على تمثيل الدور المنوط بها منذ عشرات السنين. وحده نبيه بري التزم الصمت طيلة الاجتماع من موقع الشريك - المضارب، يستمع الى رئيس بدا وكأنه محنطا، والقى خطابا خشبيا عماده نظرية مؤامرة الخارج مع بعض الداخل! ثم تلا كل واحد منهم ما عليه ان يقوله من رديات اعتاد تكرارها في مثل هكذا مناسبات. وحده ميشال سليمان غرد خارج الكورس وقال ما يجب ان يقال مصوبا نحو "حزب الله" ومثيرا حفيظة الاتباع.
المسألة التي احتلت الأولوية في البيان الذي صدر هي تلك التي يجب ان تكون في خاتمته. ان بيان العموميات هذا والتمنيات، والتهرب من مقاربة معضلة السلاح الاساسية، يبدأ أصحابه بالتأكيد على ان الاستقرار الأمني هو شرط للاستقرار السياسي والاقتصادي، ويحذرون من الفتنة الطائفية والمذهبية التي يهيئون هم لها ويوقدون نارها، فيرسلون زعرانهم لتحريك ساحاتها، ويحاولون ايقاظ شياطينها واثارة غرائزها يمينا وشمالا، في عين الرمانة كما في طريق الجديدة. ثم يحاولون تحميل المسؤولية للآخرين، ويطالبونهم بالمشاركة في الحفاظ على السلم الأهلي.
وبدل ان يقف شاعرالبلاط، مدبج البيان وقارئه، مزهوا بفصاحته يمنن اللبنانيين، وبوقاحة، بأن حرية التعبير مصونة، رغم انها مكفولة ومكرسة في الدستور اللبناني، كان على السلطة التي ينطق باسمها ان توقف حملة الاعتقالات والتوقيفات والمضايقات التي تطال هذه الأيام المنتفضين وناشطي ثورة 17 تشرين. ثم يتشدقون بالحياة الديموقراطية التي لا تستقيم من دون وجود المعارضة، فيما هم يقمعون ويعتدون على المعارضة الشعبية، اما المعارضة السياسية قد ألغت نفسها واكتفت بان تجلس في غرفة الانتظار لكي تعود شريكا في السلطة. أما الخطة لانتشال البلد من أزمته الاقتصادية والمالية العميقة، عبر استعادة سلطة الدولة من براثن السلاح الميليشياوي، فلا اثر لها في البيان الذي يسترسل في توصيف عام للازمة، وفي تعداد "منظومة القيم الاخلاقية والوطنية التي يختزنها لبنان والتي نركن اليها ونجد فيها ملاذا آمنا...". اي ان الفصاحة والبلاغة والكلمات المنمقة، والنصائح من نوع "الارتقاء بالعمل السياسي الى المستوى الوطني متجاوزين كل الاعتبارات..." التي لا تغن ولا تسمن من جوع من شأنها ان تجد العلاج الشافي لازمتنا المستعصية، ولعزلتنا العربية والدولية التي اغرقنا فيها "حزب الله".
ولكن السحر انقلب على الساحر، اذ ان ما اراده نصرالله من هذا اللقاء اي انتزاع دعم وتغطية داخلية شاملة من الجميع لمواجهة مضاعفات عقوبات "قانون قيصر"، وربما اعلان حكم المحكمة الدولية في اغتيال رفيق الحريري، لم يحصل عليه وانما حصل على ما هو في جيبه أساسا أي دعم "جحا واهل بيته". لا بل على العكس، يبدو ان لقاء أمس سيعجل في فرض عقوبات اميركية على حلفائه (تصريحات دايفيد شنكر ودوروتي شيا) مع استمرار الفلتان والتهريب عبر الحدود والمعابر اللبنانية-السورية دعما للنظام السوري.
غير ان أخبث وأخطر ما تضمنه البيان، والذي يأخد طابع التذاكي، هو محاولة دق أول اسفين في "اتفاق الطائف" تحت عنوان تطوير النظام السياسي ليكون اكثر قابلية للحياة، تمهيدا للانقضاض عليه لاحقا عند أول فرصة سانحة. وينطلق "جحا وأهل بيته" من اظهار حرصهم على الدستور، وضرورة تطبيقه وتطويره، ليتكلموا عن "سد ثغرات فيه وتنفيذ ما لم يتحقق من وثيقة الوفاق الوطني"، متناسين اولا ان النظام الأسدي راعيهم وحاميهم هو من منع تطبيق "الطائف" واستبدله بنظام مزرعة الطوائف والميليشيات كي يبقى يمارس على مدى عقدين لعبة "فرق تسد". كما انهم يتناسون ايضا ان اي محاولة لاجراء اي تعديل على اتفاق كلف اللبنانيين اكثر من 150 الف قتيل، في ظل اختلال موازين القوى داخليا وهيمنة السلاح على السلطة وعلى الحياة السياسية، كمن يلعب بالنار ويفتح الباب على جهنم.