في تأكيد على تراجع الموارنة من الدور إلى الوظيفة، بادر رئيس الجمهورية المنتهية ولايته ميشال عون، ومعه رئيس التكتّل العوني النائب جبران باسيل، إلى محاولة منع اجتماع "حكومة تصريف الأعمال" بادّعاء الدفاع عن "حقوق المسيحيين" الذي لا يني يكرّره.
ما زاد من رداءة المشهد هو انضمام حزبَيْ "القوات اللبنانية" و"الكتائب اللبنانية" إلى سوق المزايدة الأهلية، الذي رفع بدوره من وتيرة الانقسامات الوطنية. وحده "حزب الطاشناق" الأرمنيّ وعبر الوزير جورج بوشكيان بادر إلى إنقاذ "اجتماع الضرورة" المخصّص لتسيير وتدبير ما أمكن من أمور اللبنانيين بصفتهم "اللبنانية" لا الطائفية أو المذهبية.
الموارنة أهل الخسارات
نادراً ما امتهن أحد الخسارة كما يفعل الموارنة. صنّاع لبنان الكبير تحوّلوا إلى باحثين عن صلاحيّات تاركين معنى البلد وجوهره. على العكس منهم كان الأرمن الذين أتوا لبنان فارّين من المجازر فصار الملجأ وطناً انحازوا إليه. انتصروا على الدوام لمعنى لبنان أكثر من المكوّنات اللبنانية الأخرى. منذ انتخاب أوّل نائب لهم عام 1922 راحوا يحوّلون ثقلهم الاجتماعي - السياسي إلى أرجحيّة وطنية لبنانية من دون القطع مع أصلهم الذي شكّل إضافةً حضاريةً للبنان بمعالم فنّية وسياسية وتشريعية.
وطن هشّ ودولة متعثّرة
دائماً ما كان الموارنة أصحاب هواجس تأخذهم إلى منطق الغلبة. سيرتهم وعلاقتهم بجمهورية الأرز وضعت لبنان بين حدّين: الوطن الهشّ والدولة المتعثّرة. الخصوصية بالنسبة إليهم تتقدّم على كلّ ما عداها. قادتُهُم انطبعوا بنزعات استئثاريّة. في بداية التأسيس كانوا ضمانة الوطن الوليد. لاحقاً صاروا عبئاً على ذواتهم قبل الآخرين. منهم كميل شمعون وبشير الجميّل اللذان حاولا ما استطاعا أن يحفظا مجد الآباء والأجداد. لكنّ منهم أيضاً جبران باسيل الذي يريد القفز فوق الوقائع الداخلية. لا يترك الرجل مناسبة إلّا ويستحضر فيها "المارونيّة السياسية" بما هي مشروع غلبة لفئة على مثيلاتها. كلّ الطائفيّات السياسية تشبه بعضها في سعيها إلى الاستئثار بالحكم للتحكّم.
الأصعب أنّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع يلحق بباسيل وينافسه في شدّ العصب الأهلي. كذلك يفعل رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل. بين هذا الثلاثي هناك الكنيسة وكلامها الجارح في أكثر لحظات البلد حراجةً وحساسيّة.
الأرمن أيضاً كانت لهم حساباتهم الوجودية في بلد يضجّ بهواجس مكوّناته. لكنّ ذلك وجّهوه نحو الحفاظ على الدولة فكانوا على الدوام حزب السلطة التي تحفظ الدولة ومن دون نزعات تحكّميّة. دوماً يصطفّون إلى جانب الدولة. حاذروا باستمرار الانحياز إلى جانب الأحزاب وصراعاتها. انتماؤهم إلى القضيّة الأمّ. وولاؤهم للبنان الواحد. كانت لهم أحزابهم لكنّها اجتنبت أن تلد ميليشيات. اجتنبوا أيضاً المغامرات. الحرب الأهليّة أخذتهم حيناً. مارسوا مواطنيّتهم بكلّ حرّية، بينما الآخرون كانوا يرونهم كتلةً انتخابية. طبعاً ليسوا ملائكة الدولة اللبنانية. عليهم الكثير من المآخذ، وأبرزها أنّهم مالوا ميلاً واضحاً إلى "تحالف الأقلّيات". هذا بدا واضحاً في العلاقة مع سوريا ومع "حزب الله". لكنّ هذا فعله جزء من الأرمن. ولئن كان حزب الطاشناق الأكثر وزناً بين غيره من الأحزاب الأرمنية، فإنّ الآخرين شكّلوا لحظة توازن سياسي. هكذا فعلوا مع رفيق الحريري قبل 2005، وهكذا استمرّوا مع الحريريّة السياسية بعد الاغتيال المريع.
ليس هذا "النبش" لمساءلة أحد، ومحاباة آخر. هو شديد الصلة باستدعاء سؤال عن مستقبل البلد فيما أحواله لا تبشّر بخير لا من قريب ولا من بعيد. أعطى لبنان للموارنة في الجمهوريّتين الأولى والثانية ما لم يعطِ لغيرهم من ضمانات ينبغي لها أن تستبعد هواجس الديمغرافيا، وينبغي لها أيضاً أن تُقصي "قلقاً" على صلاحيّات شكليّة ستُضيف إلى الانهيار ثقلاً رهيباً في السقوط الحرّ الذي نحن عليه .
صار لزاماً سياسيّاً على الموارنة مراجعة علاقتهم التأسيسية بالكيان وصولاً إلى الأيلولة الكارثية التي بلغوها وبلغها معهم لبنان كلّه. لبنان كلّه صار بلا ضمانات. الضمانات التي خسرها البلد تتعلّق بقدرته على ارتياد المستقبل. لا بل تتعلّق أصلاً بقدرته على البقاء وطناً أو دولة.
المغامرات القاتلة
ندر أن كان للّبنانيين هموم مشتركة. حتى الحفاظ على السلم الأهلي لم يشكّل علامة جمع. هذا ما تقوله مغامرات "الشيعية السياسية" وقرينتها "المارونية السياسية" بمعناها العوني - الكتائبي - القوّاتي.
ينادي المسيحيون الموارنة اليوم بمعازل وغيتوات. عادوا إلى استئناف لغة الحرب التي خسّرتهم كلّ شيء. سلوكهم الراهن وكأنّهم في لحظة التأسيس.
الجديد أنّهم أخذوا من "الشيعة" النواح على الماضي. في بلد مثل لبنان انهارت كلّ أبنيته الدستورية والسياسية وصار وجوده محلّ سؤال، يظهر من "المارونية السياسية" بتشكيلها الثلاثي مَن يريد تقسيم العاصمة بيروت بما هي حيّز للتعايش والتفاعل الحضاري المدني. في حديث من مثل هذا شيءٌ من عقل ريفيّ. هذا العقل يمنع بيع واستئجار عقارات في الحيّز المسيحي. عقل سبق له أن استنفر كلّ شيء حتى ضدّ رفيق الحريري الذي لولا وجوده أوّلاً ودماؤه لاحقاً ما كان للاستقلال الثاني أن يبصر النور.
نجح الأرمن ببراعة نادرة في أن يجمعوا وطنيّتين فكانوا لبنانيّين عرباً وأرمناً. كانت هويّتهم مساحةً لانتماء صافٍ. كان انتماؤهم في يقينهم. كان التزامهم بالوطنيّة اللبنانية صافياً أيضاً. اختلطوا بالعرب منذ الأمويّين ومن دون أيّ قلق على الهويّة، أو من الديمغرافيا. حيث أقاموا اصطفّوا إلى جانب أبنية الدولة التي يعيشون على أرضها. هكذا هم في سوريا ومصر والعراق. ربطوا وجودهم بما يقدّمونه لا بما يأخذونه.
قد تكون ثقتهم بكنيستهم الأقدم في العالم أساسَ صلابتهم في الانتماء إلى الدولة التي يعيشون على أرضها. كانت كنيستهم تشجّعهم على الانفتاح. كان الآخرون من الأقليّات الثانية، مسلمة أم مسيحية، يميلون تلقائياً إلى التقوقع. كان الوطن عند الأرمن شعوراً وقناعة. عند الأقلّيات الأخرى هو جغرافيا مرهونة بمن يحكمها. لم ينهزموا أمام أيّة مخاوف. لم ينتصروا أيضاً بمددهم الخارجيّ على الداخل.
ولّادة أزمات وتصدّعات
يظهر الموارنة أكثر تعقيداً على المعنيَيْن السياسي والاجتماعي. أداؤهم مرتبك على الدوام. هم طائفة مؤسِّسة، ولا لَبس في ذلك. حقّهم في التأسيس لا يعني أن ينفي "الشراكة"، وهي شعار الكنيسة مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي. الشراكة هي على الضدّ من الماضي "الفوقيّ" في زمن التأسيس. الشراكة ضمانة دستورية وسياسية واجتماعية، ومتى نزعوا إلى غيرها فهذا يعني أنّهم يرذلون "المناصفة"، بما هي تدبير سياسي للحفاظ على الجميع، ويعني أيضاً من بين ما يعني العودة إلى مربّع أزمة الوجود والهويّة، وهذه أزمة مسالكها متعرّجة وفضفاضة وتردّ الجميع إلى "الوطن الهشّ والدولة المتعثّرة". وهذا في الوقت الحالي يفيض على لبنان أهلاً وجماعات.
وإذ جاز نقد "المارونية السياسية" وتنافس مكوّناتها على استفزاز البلد وأهله، كما يفعل "حزب الله" ورهطه، وهو جائز في السياسة، فإنّه على نحوٍ موازٍ سؤال لها: ماذا تفعل حيال نفسها بعيداً عن "نوستالجيا" ذاك الماضي الرهيب؟
*نُشر على صفحة أساس-ميديا