ما إن انتهت المواجهات بين حماس وإسرائيل حتّى أعلن كلا الطرفين انتصارهما فيها. حماس ومن ورائها إيران أعلنا الانتصار بالاستناد إلى قدرة الحركة على استهداف العمق الاسرائيلي بصواريخ أبعد مدى وأكثر قدرة على التدمير، كما استندت على تحرّك فلسطينيي القدس والضفة و"عرب 48" دعماً لها بالمباشر أو ضدّ إسرائيل، وهو تحرك لم يحصل مثله منذ عقود. ولكنّ مع ذلك فإنّ حماس لا تستطيع منذ الآن اعتبار هذا التحرّك انجازاً لها يعكس حقيقة تأثيرها في الساحة الفلسطينية، وإن كانت ستحاول البناء عليه لتوسيع نفوذها بوجه فتح في الضفة وربما ستسعى إلى احداث اختراقات في إسرائيل، لكن حتى الآن لم يصدر في الصحافة الإسرائيلية ما يشير إلى خشية إسرائيلية جدية من ذلك، بالرغم من قلق المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية من تفاقم أعمال العنف بين العرب واليهود.
من جهتها أعلنت اسرائيل انتصارها في معركة "السور الواقي" باعتبار انّها نجحت في تدمير العديد من أنفاق حماس وقتل العديد من ناشطيها فيها، وخصوصاً بعد تلويحها بالتدخّل البرّي في القطاع ما دفع بمقاتلي حماس للنزول إلى الأنفاق فسارعت إسرائيل إلى قصفها. وقد اثبتت إسرائيل في هذه العملية تطوّر قدراتها الإستخبارية وهو ما أجمعت عليه الصحافة الإسرائيلية التي انقسمت بطبيعة الحال حول قراءة نتائج الحرب. كذلك فإنّ اسرائيل استطاعت قتل العديد من القيادات المهمّة في حماس ومنها مسؤولون عن تطوير قدراتها الصاروخية.
إعلان كلا الطرفين انتصارهما في هذه المعركة كان أمراً متوقّعاً منذ اللحظة الأولى لإندلاعها، ولذلك ليس هو المهمّ بل الأسئلة الكثيرة التي طرحتها هذه الجولة القتالية بين حماس وإسرائيل على الساحة الفلسطينية وفي الداخل الإسرائيلي وعلى صعيد مستقبل عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. هذا فضلاً عن الأسئلة المتصلّة بالنفوذ الإقليمي على الساحة الفلسطينية في ظلّ تنامي نفوذ حماس المدعومة من إيران، وإسماعيل هنية لم يتأخر، من مقر إقامته في قطر، في شكر إيران على دعمها للحركة.
على الساحة الفلسطينية هناك بداية دفع إقليمي ودولي لتشكيل "حكومة وحدة" قيل أن حماس وفتح تريدانها، الأولى لتثمير "انتصارها" العسكري في حكومة تعكس موازين قواها تقدّم الحركة نقاطاً على فتح، والأخيرة تريدها لامتصاص مفاعيل "انتصار" حماس.
لكن مستقبل موازين القوى على الساحة الفلسطينية ليس في يد حماس لوحدها، إذ أنّ الدور الكبير الذي لعبته مصر في انتاج اتفاق وقف إطلاق النار بين الحركة واسرائيل سيكون عاملاً حاسماً في التطورات السياسية على الساحة الفلسطينية. فإذا كانت حماس اعلنت الانتصار العسكري فإنّ مصر باستطاعتها القول إنها حقّقت انجازاً سياسياً في العمل على وقف الحرب، وهي لن تفرط بهذا الإنجاز، وبالتالي سيكون لها قدرة على التأثير في أي عملية سياسية فلسطينية، ولاسيما أن الجولة الأخيرة أظهرت تراجع تأثير قطر وتركيا فيها.
عملياً مصر ستحاول تقليص قدرة حماس على ترجمة "انتصارها" العسكري سياسياً. ولاسيّما ان القاهرة ستدير عملية اعادة الاعمار في عزة تحت غطاء أممي. وفي إسرائيل يتحدثون عن مراقبة شديدة هذه المرة على المواد التي ستدخل إلى القطاع والتي يمكن ان يكون لها استخدام مزدوج في البناء وصناعة الصواريخ. وهذا يعني أن الاجراءات للحد من قدرة حماس على تطوير قدراتها العسكرية ستكون أقوى. كذلك فهناك مطالبة اسرائيلية بتسليم الأموال القطرية المخصصة للقطاع إلى السلطة الفلسطينية التي تسلمها بدورها إلى حكومة حماس في القطاع. وهو ما يصب في تقييد حماس.
لكن هذا لا يعني أنّ حماس لن تحقق مكاسب سياسية، لكنها مكاسب ستكون أقلّ من تلك التي تتوقّعها هي وإيران التي تمدّها بالصواريخ ولكنّها ستكون خارج عملية إعادة إعمار القطاع، وهذا سيكون عاملاً حاسماً على الساحة الفلسطينية.
أما في الداخل الاسرائيلي فلا يزال مستقبل تشكيل الحكومة ضبابياً ومن غير المعروف إن كانت اسرائيل ستذهب الى انتخابات تشريعية جديدة ستكون الخامسة خلال سنتين. لكن ما يقلق المؤسسة العسكرية هو مستقبل العلاقات بين العرب واليهود في إسرائيل، كما يبرز توجها في الصحافة الاسرائيلية لاعادة تفعيل العلاقة مع السلطة الفلسطينية. بينما كان بنيامين نتانياهو يفضّل طيلة الفترة الماضية الحوار مع حماس ولاسيما انه كانت هناك رهانات في اسرائيل على أن يحيى السنوار مسؤول حماس في غزة يميل الى البراغماتية وهي رهانات أظهرت المعركة الأخيرة فشلها.
كذلك سيتعين مراقبة الأوضاع في القدس التي تسعى إسرائيل إلى تهدئتها، وذلك لقطع الطريق على حماس التي تسعى للاستثمار في قضية القدس بهدف فرض نفسها محاوراً رسمياً في شأنها. لكن ذلك صعب المنال لحماس خصوصاً مع عودة اهتمام واشنطن بـ "الشرق الأوسط"، وحديث بايدن عن حلّ الدولتين وارسال وزير خارجيته لاجراء محادثات مع القيادة الاسرائيلية والسلطة الفلسطينية. لكن في المقابل ستكون حماس لاعباً خلفياً في أي عملية سياسية جديدة بين الإسرائيليين والسلطة، مستفيدة من ضعف السلطة التي بات من الصعب تعويمها.
لذلك كلّه ما يزال من المبكر حسم النتائج السياسية والأمنية للمواجهة الأخيرة بين حماس وإسرائيل بالنظر إلى التعقيدات الكثيرة في المشهدين الفلسطيني والإسرائيلي وبالنظر إلى تعقيدات المشهد الإقليمي أيضاً، وخصوصاً ف ظلّ عودة واشطن إلى "قضية الشرق الأوسط"، وسيكون من المهمّ مراقبة إلى أي حدّ سينقلب بايدن على "صفقة القرن" التي اعلنها ترامب، مع العلم ان حلّ الدولتين الذي دعا إليه بايدن يوجه ضربة قوية لها، لكن حتّى الآن لا تزال السفارة الأميركية في القدس، كما أن الرئيس الأميركي دعم مسار التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل. وهذه كلّها عوامل مؤثرة سلباً أو ايجاباً في أي عملية سلام جديدة، والتي يبدو أن إطلاقها ليس قريباً !