قدر اللبنانيين أن يكون الاستقلال مشروعاً دائماً لا حدثاً ينتهي باستعراض تلفزيوني على ما جرت العادات اللبنانية، وهي كثيرة ومعطوبة ومعتلّة كلّها بـ"الادّعاء".
الاستقلال بمعناه العريض والعامّ مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوحدة الداخلية وبقرار المكوّنات الأهلية التمسّك بالجغرافيا السياسية وبما هي عليه من وعي ثقافي وأسلوب عيش.
استقواء بالخارج
يتراجع الاستقلال كلّما تراجعت الوحدة الداخلية. ويتقدّم بوضوح عندما تتقدّم هذه الوحدة. فمع انكسارها تنكسر العلاقات مع طرف من الأطراف الداخلية. وهذا غالباً ما يحصل إثر مقايضة مع خارجٍ ما يُعطى طوعاً جزءاً من السيادة التي يُفترض أنّها كلٌّ وواحدٌ لا يتجزّأ.
التنازل عن الاستقلال أو تصديع مبانيه الدستورية تناوبت عليه الطوائف كلّها: استقوى الموارنة بالانتداب الفرنسي إلى أن كان لبنان الكبير. المُسلمون فعلوا ذلك أيضاً بنشدانهم بلاداً أكبر من لبنان، أي الذوبان والوحدة مع العالم العربي بتعريفاته الناصرية والبعثية. كانت ذروة مخاطرتهم يوم استقووا بمنظمة التحرير الفلسطينية وبعض اليسار الداخلي المضطرب، ثمّ كان أن كرّروا ذلك مع الاحتلال السوري الذي أقام في بلاد الأرز زهاء ثلاثة عقود. وأفاقوا متأخرين على دم رفيق الحريري.
تبادل الأدوار
اليوم تستقوي الرديكالية الشيعية بمشروع إمبراطوري من طبيعة مذهبية قومية: إيران المذهبية والقومية.
إذا كان الاستقلال مشروعاً وطنياً ومسؤولية وطنية مشتركة، وهو كذلك، فيعني هذا، بين ما يعني، أنّ استقلال البلد غالباً ما كان من اختصاص من يبدّد الاستقلال. هذا ما حصل يوم انقلب الموارنة على فرنسا بعد لبنان الكبير، ورفضوا آنذاك المكاسب التي كان من الممكن حصولهم عليها من أجل الشراكة الوطنية. ويعود الفضل للمسلمين بإخراج سوريا من لبنان، متنازلين عن مكاسب الغلبة التي أُعطيت لهم من الوصاية السورية التي أخرجوها وحناجرهم تصدح: "لبنان أوّلاً".
واليوم، إذا كان الاستقلال عن الاحتلال السياسي الإيراني، على ما يعاينه ويصفه نهاد المشنوق، هو مسؤولية مشتركة، يبقى أنّ الأصل الوازن لهذا التحرّر ينبغي أن يُباشره الشيعة أوّلاً. ومثل هذه المُهمّة ينبغي لها أن تنهض على الوحدة الداخلية اللبنانية، لأنّ التجارب الماضية لم تسمح بنجاح أيّ طائفة وحدها مهما علا شأنها. وأيّ حزب، مهما كانت مكانته في لبنان والمنطقة، لم ينجح في فرض شروطه على جميع اللبنانيين. ولذلك على الجميع أن يعودوا إلى لبنان، وبشروط لبنان.
البلد الصعب
الرهيب في السياقات اللبنانية أنّ لبنان بلد صعب. ومشاريع الاستقلال كانت تتمثّل على الدوام بحروب أهليّة مئة في المئة وخارجيّة مئة في المئة. وتعني الحروب الداخلية والخارجية في لبنان أنّ البلد الصغير الذي حكمت عليه الجغرافيا والتاريخ أن يجاور دولة لا تعترف به هي سوريا، ودولة لا يعترف بها هي إسرائيل، سيبقى عرضة للعواصف السياسية والحربية في غياب الوحدة الوطنية التي تعالج في آن واحد: الانتماءات والهويّات.
بات الحديث عن اللاستقلال الثالث عسيراً على البلد وأهله. ومع استمرار مشاريع الغلبة التي يُعبّر عنها "حزب الله" راهناً، ومعه "شيعية سياسية" فجّة وغليظة، ما تزال الحروب الداخلية والخارجية تهدّد البلد في سلمه وأمنه وازدهاره واستقراره، وتحول دون أيّ تسوية ممكنة. في وضع كهذا، يظلّ قدر اللبنانيين أن يختتموا جروحاً فتنفتح أُخرى. والأشدّ مدعاةً للقلق أن تستدعي مشاريع الغلبة بطبيعتها مشاريع غلبة أخرى لا ينقصها لا الضراوة ولا الشّدّة. وما يُصدره اللبنانيون من لغات يوميّة يقول إنّهم ما استطاعوا الخروج من منطق الحروب الأهلية الداخلية، وهم على استعداد أبديّ للعودة إلى سيرتهم الأولى.
يمكن القول إنّ مشروع "الشيعية السياسية"، لجهة الغلبة في البلد وعليه، تمثّل حلماً كبيراً لدى أبناء هذه الجماعة بالمعنى الأهليّ. وهو حلم بالغ الخطورة. ولهذا استباح قادته من أجل تحقيقه استعمال الوسائل كلّها. قد يكون أسْوَؤُها أنّهم لم يتعلّموا أنّ الاستعانة بالخارج لتحقيق الذات الداخلية أحد أهمّ الدروس التي يجدر بهم تجنّبها بعد كلّ ما حدث.
حين تكون جماعة بعينها، أو معظمها على الأقلّ، منتفخةً بقواها العسكرية ـ السياسية الخارجية، يصبح مشروع تفجير البلد هو الأمر الوحيد المطروح على الجميع. وما دامت هذه القوّة على ما هي عليه، فهذا يعني بوضوح أنّ الإصرار على استقلالية السياسة اللبنانية ولبنانية القوى السياسية بات مطلباً عسيراً لا يمكن تحقيقه الآن.
حزب القوّة والتشتيت
الغلبة التي يصدُر عنها حزب الله لم تعُد خجلة بمصادر قوّتها وعنفها الإيرانيَّين. صارت مهجوسة بأن تحكم البلد من دون أيّ اعتبار لواقع الدولة أهلاً ومؤسّسات. وعلى مدى التاريخ اللبناني لم تتشكّل قوّة سياسية على هذا القدر من الاستفزاز من دون أن يتلوه عنفٌ يضرب من كلّ حدب وصوب. ويكون من نتائج هذا أن يصبح البلد متشظّياً ومفكّكاً وغير قادر على البقاء.
كيف يمكن الحديث عن الاستقلال الثالث فيما الخارج المُستعان به كان على الدوام متحكّماً ومقرّراً في شؤون اللبنانيين. دور هذا الخارج ووظيفته تغليب طرف على آخر. والحال هذه، توحي الوقائع كلّها أنّ ثمّة تكراراً مريراً لتاريخ النزاعات اللبنانية يُباشره "حزب الله" من دون تغييرات تُذكر. ما يفعله راهناً هو تقطيع أوصال البلد، ولا يكتفي بغلبته على غيره من الجماعات الأهلية، بل هو يذهب أبعد من ذلك، إذ صار يُغلّب مناطق على أخرى، إلى حدّ أنّه يبدو "حزب التفريق والتشتيت" بلا منازع. لقد حوّل لبنان إلى ساحة لقياس قوّته وقوّة إيران، كمثل نجاحه في جعل لبنان منصّة تهديد للخريطة الإقليمية.
رهط هذا الحزب وموالوه يهتفون للسلاح. لكنّ رثاثة التعليم والاقتصاد والصحّة لا تستوقفهم. كنّا ظننّا، نحن اللبنانيين، أنّه بعد تحرير الجنوب، ثمّ إخراج الجيش السوري واستخباراته من لبنان، سيكون في الأفق لبنان الدولة المستقلّة. لكنّ ذلك بدا إرهاصاً فكرياً وتهويماً سياسياً في ظلّ ردّ حزب الله بالسلاح وبالإصرار على الانتماء إلى محور إقليمي مهجوس بـ "حكم الأقليّات وتحالفاتها".
الاستقلال الثالث المرجوّ الآن هو أن يهتف اللبنانيون جميعاً حتى تُبحّ حناجرهم: لبنان الدولة قبل الطائفة والمذهب. وهو لبنان الانتماء والهويّة.
الاستقلال الثالث هو فعل سياسي جدّي لتوكيد هويّة وانتماء يحميان الجغرافيا السياسية لهذا البلد من عنف الخارج. حتى الساعة لن يُكتب للّبنانيين أن يصنعوا استقلالاً ثالثاً، ولا حتى حظّ المُحاولة، ما دام هناك حزب يخاطب اللبنانيين والمنطقة بـ"جاذبية عرض القوّة" عبر الاستقواء بالخارج على الداخل.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا