إحدى الخلاصات الأساسية للمأزق المالي والسياسي في لبنان منذ خريف 2019 أنّ هناك وجهين للأزمات التي تواجهها القطاعات الإقتصادية الرئيسية. فمن ناحية هناك اختلالات في وظائف هذه القطاعات وفي مقدمتها القطاع المصرفي، ومن ناحية أخرى هناك صراع على هذه القطاعات للقبض عليها وتبديل مساراتها التاريخية لتناسب خريطة النفوذ الجديدة في لبنان والمنطقة.
بالتالي فإنّ إدارة الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان طيلة الفترة الماضية لم تكن إدارة تقنية بحت بل سياسية بالدرجة الأولى وذلك تبعاً لتركيبة الحكم الحالية التي يسيطر عليها تحالف التيار الوطني الحر وحزب الله.
لذلك فإنّ قدرة الحزب، بوصفه الطرف الأقوى في الإئتلاف الحاكم، على التحكّم بالقرار السياسيّ للدولة تجعل كل الإقتراحات التي تقدّمها السلطة الحالية لمعالجة الأزمة المالية ذات هدف سياسي واضح: تمكين الحزب وحلفائه من ترجمة نفوذهم السياسي داخل القطاعات والمؤسّسات الإقتصادية الرئيسية وعلى رأسها القطاع المصرفي.
هذا ما يفسّر الحذر الشديد الذي يبديه الحزب تجاه أي مشروع دولي لدعم الاقتصاد اللبناني منذ مؤتمر باريس 1- أيّام الرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى مؤتمر سيدر الذي قال رئيس كتلة الوفاء للمقاومة صراحة أن الحزب معني بمتابعة تنفيذه عن كثب.
والحال لم تكن مستغربة مسارعة الحزب إلى رفض تفاوض حكومة حسّان دياب مع صندوق النقد الدولي لوضع برنامج إنقاذي للاقتصاد ومالية الدولة، قبل أن يعود ويقبل بهذا التفاوض لكن ضمن شروط.
فأولوية الحزب بشأن معالجة الأزمة لا تحدّدها الظروف الموضوعية لهذه الأزمة لناحية البحث عن السبل الممكنة والضرورية للخروج منها، بل ظروفه الذاتية والمتمثّلة بإصراره على التّحكم بالحلول المقترحة لكي لا تعاكس استراتيجيته لاحتواء ما أمكن من الدينامية الإقتصادية للبلد بقطاعيه العام والخاص.
والحال فقد عكس مضمون الخطّة الإصلاحية التي وضعتها حكومة دياب التوجّهات الإقتصادية الرئيسية للحزب وحلفائه. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن ترى المصارف في هذه الخطّة استهدافاً مباشراً لها بل لمبدأ الاقتصاد الحر الذي يكفله الدستور اللبناني. إذ أنّ الغاية من الخطة لم تكن معالجة الأزمة على المدى القريب بل استغلالها لإجراء تغييرات جذرية في البنية الإقتصادية للبلد تلائم خريطة النفوذ الجديدة في البلد.
لذلك فإنّه من غير الممكن مقاربة القطاع المصرفي اللبناني من الناحية النظرية بوصفه قطاعاً خاصاً بحت. إذ أنّ هذا القطاع الذي شكّل الركيزة الرئيسية للإقتصاد الوطني منذ الاستقلال أصبح عنصراً مكوّناً لهوية البلد الاقتصادية والسياسية على السّواء.
وهو ما يحتّم مقاربة الأزمة المصرفية الحالية من وجهتين: الأولى متّصلة بالتعثّر المالي للمصارف والذي ينعكس على علاقاتها مع مودعيها، والثانية متّصلة بمحاولة قوى الأمر الواقع استغلال الأزمة لتغيير الخريطة المصرفية بما يعكس التغيرات الديموغرافية والسياسية والإقتصادية التي شهدها لبنان طيلة العقدين الماضيين.
وما يسري على القطاع المصرفي لهذه الناحية يسري على جميع المؤسسات الرسمية الرئيسية وفي مقدّمتها المؤسّسة العسكرية التي شكّلت على مدى العقود الماضية الضمانة الأساسيّة للاستقرار الداخلي، وعلى هذا الأساس فقد حازت ثقة دولية لم تحز مثلها أي من المؤسسات الرسمية الأخرى.
لذلك فإنّ الضغوط المتواصلة على الجيش خصوصاً لجهة اقحامه سياسياً وإعلامياً في قضيّة انفجار المرفأ تأتي في توقيت مشبوه إذ تعكس استهدافاً ممنهجاً للقطاعات والمؤسسات الرئيسية الواحدة تلوَ الأخرى بغية إحكام السيطرة عليها تماماً. وكلّ ذلك في سياق الإنقلاب التدريجي الذي تنفذّه قوى الأمر الواقع مستغلّة الأزمة المالية لتكريس نفوذها في البنى الإقتصادية والسياسيّة والأمنية للبنان.