يتبجح من وقت لآخر أحد مسؤولي نظام الملالي باحتلالهم لأربع عواصم عربية، أضافوا أفغانستان إليها بعد الانسحاب الاميركي.
في البداية، وبعد الصدمة الأولى، كانت ترتفع اعتراضات المسؤولين ولو بخجل، بعد ضغط الرأي العام، فيطلبون تفسيراً من السفارة، يرفض السفير الذهاب في سياق استجواب ويجعلها "زيارة". لكن مع تكرار الأمر بدأت اعتراضات المسؤولين تخفت وكأنهم سلّموا أمرهم ويريدوننا أن نسلّم بالاحتلال.
بالمقابل، بدأ الرفض للتدخل والاحتلال الإيرانيين يتصاعد في الشارع ويتعمم كشعار. وهناك فئات تمتعض من شعار "إيران برا" أو أنها قوة احتلال. منها من يجهل هذه التصريحات لأن الإعلام الممانع لا ينقلها. وهناك من يخاف أن يرفع صوته ضد الاحتلال وهناك من يستقوي به.
المضحك في الأمر أن من يعرف تصريحات إيران يزوّر الوقائع بممارسات بهلوانية بوقاحة. وآخرها اغتنام فرصة ذهاب سفيرتي كل من الولايات المتحدة وفرنسا إلى الرياض لمناقشة الأوضاع ولمنع الانهيار، فتعلق المنار بما يلي: "بلدٌ أعلنت اليوم السفارتان الاميركية والفرنسية في بيان لهما الانتداب السياسي الذي كان بالخفاء وبات بكل وقاحة وعلى العيان".
ما يهمني في هذا السياق فهم كيف نجحوا بهذه الممارسة الازدواجية وبتحوير الوقائع وإقناع الآخرين بها؟
لقد نجحت إيران وحزبها، وبمهنية عالية، في بناء وسائط متعددة، على غرار ما قامت به من اعتماد وكلاء أو وسطاء أو عملاء وحشود تُحارب عنها، في كل بلد من التي "تحتلها"، يشكلون ستارة تختبئ خلفها، على طريقة المافيا وشبكاتها.
منذ التسعينيات، حصل تقاسم أدوار وسلطة بين الثنائي الشيعي. أُوكلت أعمال الدولة وسمسراتها لنبيه بري، أما الإدارة من الخلف فاحتكرها الحزب، كما احتكر "المقاومة".
استفادت حركة أمل ورئيسها من وظائف الدولة ومكاسبها، فالتصقت بهما حصرياً تهمة الفساد. استطاع الحزب بهذه الطريقة إبعاد نفسه عن الشراكة بالفساد؛ مع أنه أصبح مع الوقت أكثر تغلغلاً في سراديب ومفاصل الدولة ومنافعها. والدليل ملفات الفساد –المجمدة- لصاحبها حسن فضل الله. وكأن بالإمكان ضبط ملفات فساد دون الضلوع بها. وعلى هذا المنوال، نسج علاقاته وأوجد الشخصيات "المستقلة" لتقوم مقامه بالأعمال.
فجاء برئيس "قوي" يدافع عن المقاومة ويعلن أن الجيش عاجز عن الحماية. واعتمد على الصهر الذي بدا كوزير خارجية لإيران وسوريا، وتكفل توصيل رسائل حليفه والدفاع عن مصالحه. ناهيك عن رؤساء الحكومات ووزرائها الذين يتبعون تعاليم المرشد الخطابية وينفذونها حرفياً. وآخرها فضيحة وزير الاقتصاد، راوول نعمة، الذي نفذ حرفياً تعاليم المرشد الخطابية وأرسل كتابا إلى القضاء يطلب فيه اعتبار التحقيق بانفجار 4 آب كإهمال لصرف قروش التعويضات. كما تأنيب حسان دياب للسفراء الأجانب.
لذا، عندما تقول لمحدثك أننا تحت الاحتلال الإيراني بواسطة حزب الله، يعترض ويجيب: أنتم لا تجيدون سوى اتهام الحزب، ما دخله بالبنزين والطحين والدواء و و... متجاهلين الحدود الفالتة بحمايته. كما أنه يعتبر أن التهريب فعل مقاومة.
حزب الله أوجد وسائط تقوم بأعماله ليظل خارج إطار الصورة. أوصل إلى المفاصل الأساسية رموز عمل دجنها عبر التهديد والوعيد والامتيازات وقانون الانتخاب الهجين وانتهاك الدستور والقوانين والمهل وخلق أعراف جديدة هرطوقية.
عندما استمع إلى تعليقات الناس، في الشارع وفي سيارات الأجرة وعلى الإذاعات، كيف يوصّفون أوضاعهم، تجدهم اعتادوا على عاصفة البنزين والانتظار من الخامسة صباحاً بالطابور إلى جانب طوابير شحاذة أموالهم من المصارف، وطوابير الدواء والاستشفاء والخبز. وفوق كل ذلك، طوابير الشبيبة من جميع القطاعات أمام أبواب مختلف السفارات. كأن الخطة إفراغ لبنان من كوادره بالحرب الاقتصادية كما أُفرغت سوريا بالحرب العسكرية. فيتوزع اللبنانيون بين خاضعين ومهاجرين.
وبدل سؤال لماذا ليس لدينا بنزين ومازوت أو دواء ومستشفى وخبز وكهرباء وماء؟ يكتفون بكيل الشتائم للسياسيين و"لمهرجي مجلس النواب"، ولا يوفرون الشعب. فالحق دائماً على الآخرين. في كل ذلك يتم تجهيل الفاعل ليغرقوا في النتائج وتفاصيلها.
ينسى المواطن أن المشكلة تمكن في تقصير الحكومات وهدر أموال الوزارات وخصوصاً الطاقة؛ لرمي المسؤولية فقط على الموزع والنقابة والمخازن، سواء كانت للوقود أو الدواء أو الرغيف أو المستشفى أو الكهرباء و"موتيراتها". فتتوالى المعارك والاقتحامات للمحطات والأفران والصيدليات والمستشفيات و و و وتتكاثر البطولات على غرار غارات وزير الصحة على مخازن الدواء التي لم تُصرف لها أموال الدعم. بينما كان يكفي إيقاف التهريب.
المشكلة الأخرى؛ إلقاء المواطنين اللوم على طريقة استهلاك الوقود والدواء وتخزين السلع. وعندما يفشل قطاع أو مسؤول يلقى اللوم على قطاع أو مسؤول آخر.
فكيف توصل الممسكون بالسلطة إلى هذه التعمية وإلى تجهيل الفاعل؟
سبق أن استخدم غوبلز النازي كتاب "البروباغندا"، لإدوارد برنايز، الذي يعرض آليات الدعاية والتسويق، لصالح النازية. أيضاً إيران وحزبها تفوقوا على الاثنين في استخدام هذه التقنيات.
التقنية الأولى؛ المُساعَدَة على تحول إدراك الجمهور لموضوع معين عبر إيجاد طرف ثالث، يبدو في الظاهر نزيهاً، كي يخدم كوسيط موثوق بين الجمهور وموضوع الخلاف ويعدل الرؤية. فيبحثون عن الفئة التي لها أكبر تاثير في الموضوع ويتوجهون إليها لتقوم بمهمة التأثير غير المباشر.
وصرنا على علم بمليارات الدولارات التي تصرفها إيران سنوياً على محطات التلفزة والصحف العالمية وكبار الصحافيين والكتاب ومراكز البحث الغربية، فيجندوهم للدعاية لإيران وتمرير سياساتها. وجاء في هذا السياق منع حوالي 100 منصة إعلامية "مستقلة" ظاهرياً، لأنها تقوم بالدعاية لمشاريع إيران.
التقنية الثانية؛ بدل أن نصِف ببساطة مميزات منتج ما، قضية أو شخص، تعمد الدعاية، المستوحاة من النظرية الفرويدية، إلى ربط شيء معين بشيء آخر لا يمكن للجمهور إلا أن يرغب به. الحزب عدل عن الترويج لعقيدته الدينية ولدولته الإسلامية، وأحسن استغلال القضية الفلسطينية وتحرير الجنوب، واحتكرهما مع إيران وصار اسمه "المقاومة". فأي عربي لن يناصر من يريد تحرير فلسطين؟
أيضاً عند مقتل أحد أو اغتيال أو اعتداء على أبرياء، يعمد مسؤول الدعاية - لتهدئة النفوس- إلى الصحافة وإلى قادة الرأي لإعداد النشرات التي تحتوي على أنباء ومعلومات منحازة ومجتزأة وخاطئة.
كما يتم التوجه إلى القيادات التي تؤطر الجماهير بتشكيلات جماعية، لإثارة تيارات عاطفية ونفسية بالخطابات فتتفاعل في داخلهم وتعمل لصالح القائمين بالبروباغندا. وبدلاً من معالجة مقاومة المعارضين وجهاً لوجه، يسعون إلى إزالة هذه المقاومة. وأحد عقائد هذه المدرسة النفسية أن تكرار الحافز أو المثير، ينتهي بخلق عادة جديدة، وأن الفكرة التي تتكرر دائما تتحول إلى قناعة.
يجب أيضاً ربط المحتوى بكليشيه معين، فيصبح كل معارض هو: جاسوس، عميل، إمبريالي، على غرار كليشيه شهود الزور.
فالبروباغندا تنطلق من خلال الكليشيهات أو الشعارات أو الصور التي ترمز إلى مجموعة كاملة من الأفكار أو التجارب. وبما أن الجماهير تحذو حذو القائد الذي كسب ثقتها بشكل عام، يكفي أن يعطي المرشد تعليماته لينفذوها.
وبواسطة استغلال هذه الآليات، لا يتم الربط بين الحزب وإيران وبين ما يجري في لبنان.
عن صحيفة النهار