ليس العراق وحده من ينتظر البابا فرنسيس في الخامس من آذار إنّما المنطقة بأسرها تنتظره. فالزيارة هي الأولى لبابا الفاتيكان إلى العراق البلد الذي قاسى ويلات الحروب والاقتتال الأهلي منذ العام 2003. وقد كانت الحروب العراقية مقدمّة لحرب أهلية إقليمية لم تسلم منها دولة في المنطقة.
لذلك فإنّ الزيارة البابوية المرتقبة إلى بغداد تبشّر ببداية مسار جديد في المنطقة هو مسار السلام في البلدان التي مزّقتها الحروب مخلّفة مآس إنسانية وهجرة كثيفة كادت تفرغ هذه البلدان من شرائح اجتماعية تاريخية، وخصوصاً المسيحيين الذين ترك أكثر من ثلثيهم العراق منذ العام 2003. فبعدما كان عددهم يناهز المليون ونصف المليون هم الآن أقلّ من خمسمئة ألف.
كلّ ذلك جعل البابا يختار العراق محطّته الخارجية الأولى بعدما علّق سفره بسبب تفشّي كورونا. فمسيحيو العراق والعراقيين عموماً هم بأمسّ الحاجة الآن إلى الشعور بالأمل وبأنّهم غير متروكين لمصيرهم وقد تحوّلت بلادهم ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، ومرتعاً للميليشيات المذهبية التي يشكو مسيحيو العراق من سيطرتها على أملاكهم. فما إنّ حُررت مناطقهم من تنظيم "داعش" حتّى استوطنتها الميليشيات واستولت على العديد من البيوت والأراضي، وهو ما يعوق عودة الآلاف من سكّان تلك المناطق إليها.
في ظلّ هذا الواقع يزور الحبر الأعظم العراق حاملاً رسالة سلام عنوانها "انتم كلّكم أخوة". ولعلّ هذه العبارة المأخوذة من إنجيل متّى توضح مضمون الزيارة البابوية في هذا التوقيت بالذات.
لقد أراد البابا فرنسيس تحميل مُفردة الأخوّة الإنجيلية معنى سياسياً مفاده أنّ العراقيين متساوون في مواطنيتهم للعراق، وأنّ هذه المساواة هي البديل للإستقواء الذي تمارسه الميليشيات المذهبية. أي أنّ البابا يرسم طريقاً للسلام في العراق قوامها المساواة المواطنية بين العراقيين في مقابل طريق الحرب التي ترسمها الميليشيات وقوامها غلبة فئة مذهبية على الفئات الأخرى.
هذه الدعوة البابوية إلى الأخّوة والسلام تتلاقى مع دعوة البطريركية المارونية إلى تحصين الدستور ووثيقة الوفاق الوطني بوصفهما الطريق الوحيدة نحو الخروج من الأزمة ونحو الوصول إلى "سلام لبنان" بحسب عبارة سمير فرنجية.
البطريرك بشارة الراعي قال في كلمته السبت في 27 شباط إنّ لبنان يتأسس على قوة التوازن وليس على موازين القوى التي تنذر دائماً بالحروب. وهذه الجملة تعكس جوهر وثيقة الوفاق الوطني التي أنهت حرباً دامت 15 عاماً وسقط ضحيتها 150 ألف مواطن فضلاً عن مئات الآلاف من الجرحى. أي أنّ هذه الوثيقة نقلت لبنان من منطق موازين القوى إلى منطق قوّة التوازن.
وهنا تكمن أهميّة هذه الوثيقة، إذ أنهت حرباً أهلية مدمّرة وكرّست مبدأ التوازن بين المجموعات الطائفية في ممارسة الحكم ووضعت في الوقت نفسه مساراً لإلغاء الطائفية السياسية من دون تجاوز الطوائف، وذلك عبر نظام المجلسين: مجلس نواب خارج القيد الطائفي يمثّل المواطنين ومجلس شيوخ يمثّل الطوائف. ولذلك فإنّ الانقلاب على وثيقة الوفاق الوطني هو خروج من منطق السلام أي منطق التوازن إلى منطق الحرب أي منطق موازين القوى.
بالتالي فإنّ رفض البطريركية المارونية الإنقلاب على "اتفاق الطائف" هو تأكيد من جانبها على حرصها على سلام لبنان ورفض إدخاله في الحروب الخارجية والداخلية. وعلى النحو ذاته تؤّكد الدعوة البابوية "أنتم كلّكم أخوة" على سلام العراق ورفض جعله ساحة حروب بالوكالة ومسرحاً للميليشيات المتغلّبة. أي أنّ الدعوة البابوية للعراقيين هي ليؤسسوا اجتماعهم ونظامهم السياسي عل مبدأ قوّة التوازن لا منطق موازين القوى.