صار لبنان بلد المهانة. ما من شيء يحصل إلا ويهين كلّ ما هو إنساني. لكنّ آخر الغرائب أنّ ويليام نون يهدّد أمن هذه الدولة.
النظام السياسي في لبنان يزداد تردّياً وتراجعاً إلى ما قبل نشوء الدولة، وأمنها. هو نظام يسكت على استبعاد مقولة "حقوق الإنسان" في المأكل والمشرب والملبس والصحّة والتعليم، وكلّها تحت ظلال الدولة الآمنة وليس الدولة الأمنيّة. كذلك في موضوع "حقوق الإنسان" فإنّ خطّ التمييز هو بين الدولة وبين السلطة. عيشنا الآن هو تحت سطوة سلطة وليس في كنف الدولة.
والحال هذه، فإنّ لبنان بلد لم يعد يعرف الدولة ولا الأمن. حتى سلطته قاصرة عن نشر نفوذها وتأمين مواطنيها على كامل الجغرافيا السياسية. السلطة على الناس وفي أحواز محدّدة. الحدود مع سوريا سائبة ومطلوب منّا أن نستورد لدولتين. الجنوب متروك لقضاء الله وحزبه.
في وضعيّة كهذه تفتقد أحكامٌ القيمة والخلفيّات الكثير من أهميّتها عندما يصبح الموضوع السياسي وثيقاً بـ "الأمن القهريّ" الذي يمارسه جهاز أمن الدولة وأجهزة أخرى على ما بقي من مدنيين لبنانيين غير مسلّحين يصرّون على ضرورة البقاء مواطنين.
إنّ اتّصال السياسة بالأمن يعني في ما يعنيه صلة الحياة بالحرّية. وكلاهما مقدّس. السياسة هي علم بناء الدولة وإقامتها. مؤسّسو هذا العلم أقاموا علناً حدّاً فاصلاً بين الدولة بما هي مانع للموت والتدمير، وبين السلطة بما هي أداة تمارس "العنف المقونَن". عند توماس هوبز يُخضع الإنسان نفسه لحكم الدولة بوصفها الأداة الوحيدة لحفظ الذات وصيانتها. الدولة وحدها يمكنها تجنيب الفرد وحشيّة التدمير الذي تمارسه السلطات البدائية. جون لوك ذهب إلى أنّ الدولة تنبثق من الحاجة إلى الحماية من كلّ تدمير في شؤون الحياة. لبنان الدولة بهذا المعنى لم يعد موجوداً. وفي بلوغ هذه المحطة الرهيبة التي نقف فيها، يستحيل القفز فوق مسؤوليّة الذين لم يقيموا دولة، وراحوا منذ إقرار اتّفاق الطائف ودخول البلد زمن السلم الأهليّ البارد يعزّزون الغرائز وينهشون كلّ احتمال لقيام دولة.
إنّ حبس وليم نون هو واحد من ارتكابات جهاز ما من شيء يبرّر وجوده غير "توازن طائفي مجنون".
لو كان للتفكير محلّ في هذا الجهاز ما كانت ارتكاباته تأتي مصحوبة بإخفاقات: فَشِلَ في ممارسة دور الضابطة العدليّة في ملفّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. أخفق في قضية الراحل ميشال مكتّف. لفّق ما لا يمكن احتماله للمسرحيّ زياد عيتاني. لم يفلح في مواجهة شبكات التجسّس الإسرائيلية. لم يعتقل شبكة داعشيّة. قُتل في سجونه معتقل سوري. التعذيب هو الذي قتل لاجئاً. المشهد كان مريعاً وكأنّنا في بلاد "بعثيّة" أو في الاتحاد السوفيتيّ.
صار هذا الجهاز شبحاً يؤرّق اللبنانيين، كأنّه يريد بنا الانتقال لنصبح على مثال كوريا الشمالية. أساساً نحن ننتقل عن وعي أو من دونه إلى هذا النموذج في الاقتصاد والاجتماع والتعليم. وما يساعد في المضيّ على هذا الخطّ الانحداري نظامٌ قضائيٌّ مشوبٌ بكلّ العيوب . أفظع الدلالات على ذلك توافد وفود قضائية أوروبية على البلد. أحدها يريد التحقيق في النظام المصرفي وعمليّات الاحتيال وتبييض الأموال. الثاني يريد البحث عن أحجية تفجير المرفأ.
في الأصل القضاء عندنا لم يفلح مرّة في كشف أيّ جريمة سياسية. المثال الأقرب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصولاً إلى اغتيال الأنيق لقمان سليم.
ما يحصل في لبنان حالياً يقول إنّ السلطة صارت أمنيّة بالمطلق، ويعزّز هذا الميل ويُضعف احتمالات التشكُّك فيه هو سكوت القائمين على هذه السلطة
هذان البؤس والمهانة لا يكفي لتفسيرهما الحديث عن علّة الطائفية، وهي موجودة حقّاً، لكنّها كانت تتغذّى من "المسؤولين" الذين أمسكوا بأعنّة البلد بعدما ولغوا في حروب أهليّة مديدة. وإذا أمكن فهم هذا الواقع، بقي تبريره مستحيلاً. ذاك أنّه يعتمد منطق التبرير. وكلّ تبرير هو تعليل لخطأ، لكنّ حجم الخطأ ونوعه بلغا حدود المأساة. والغضب اللبناني الذي ينتج عن هذا هو من النوع السوداويّ الذي يجعل من صاحبه كائناً "أناركيّاً" يرفض كلّ شيء، ويذمّ كلّ شيء من دون طرح البديل الإيجابي.
ما يحصل في لبنان حالياً يقول إنّ السلطة صارت أمنيّة بالمطلق، ويعزّز هذا الميل ويُضعف احتمالات التشكُّك فيه هو سكوت القائمين على هذه السلطة، وفي مقدَّمهم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الذي يشيح بوجهه عن ممارسات جهاز أمنيّ يتبع رئاسة الحكومة. سلوك ميقاتي يستدعي ذكر موقف الراحل صائب سلام يوم أصلى الأجهزة الأمنيّة حرباً لا هوادة فيها، معيداً إيّاها إلى وظيفتها، ومانعاً عنها الأدوار. يومها كان التمييز واضحاً بين حدَّيْ الدولة والسلطة.
لقد غدت هذه السلطة عبئاً على ما بقي من لبنان، وبات على اللبنانيين أن يتدبّروا لهم وجهة، فهم الذين يدفعون الأكلاف الباهظة، فيما يشكر السيّد وليم نون بعد خروجه إثر موجة غضب عارمة عمّت البلاد عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل المدير العامّ لأمن الدولة اللواء أنطوان صليبا ويتحدّث عن معاملة حسنة. في مثل حال كهذه فلننتظر الآتي الذي لا يبعث إلا على القلق والانتظار. مثل هذه السياسة القائمة عندنا، سواء انتصرت أو انهزمت، فلن تقودنا إلا إلى العزلة والتخلّف عن العالم.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا