سواء شكّلت حكومة جديدة أو لا فإنّ لبنان سيكون طيلة الأشهر المقبلة تحت وطأة التحضير للانتخابات في ربيع 2022. حتّى أنّ تشكيل الحكومة العتيدة سيخضع لاعتبارات سياسية للقوى النافذة متّصلة أساساً بهذه الانتخابات، وبانتخابات رئاسة الجمهورية التي من المفترض أن تليها بعد أشهر عدّة.
هذا اذا افترضنا أنّ الحكومة ستشكّل وأنّ الانتخابات النيابية وكذلك الرئاسية ستجرى حكماً في مواعيدها الدستورية. فلا شيء مؤكداً على هذا الصعيد طالما أنّ من بيده الأمر في لبنان، أي "حزب الله"، يقبض على العملية السياسيّة بقوّة السلاح سواء استخدمه أو لا، فإنّ "هيبة" السلاح باتت حاكمةً للاستحقاقات الدستورية، فإذا شاء الحزب تمّت هذه الاستحقاقات وإن لم يشأ تعطّلت بالمباشر أو عبر الحلفاء وفي مقدمتهم "التيار الوطني الحر" الذي أصبح يمتهن التعطيل وقد حوّله إلى منهجية سياسيّة تضرب عرض الحائط جوهر الدستور إذ تحوّله وجهة نظر يفسّرها أي كان وفق مصالحه.
إنّ عملية تقويض الدستور من جانب الحزب وحليفه التّيار ليست عملية عفوية وبسيطة، بل هي عملية مقصودة ومعقّدة إذ تلخّص كلّ المشهد السياسي والاجتماعي الاقتصادي في البلد منذ سنوات.
فعملياً تشكّل الإطاحة بالدستور طريقاً لتفكيك الدولة ولتعميق الفرز الإجتماعي – الطائفي ولازدهار الاقتصادات الخّاصة على حساب "الإقتصاد الوطني". وهذا الوضع يناسب الحزب تماماً ويناسب القوى التي تحاول التماثل مع الحزب في تشكيل إدارات سياسية واقتصادية ضمن حيّزها الطائفي.
وهذه الخطورة الرئيسة للإنهيار الحاصل إذ وبعكس ما يعتقد كثيرون فهو قد يشكّل رافعة للأحزاب الطائفية المهيمنة التي لا تزال حتّى الآن، وبالرغم من التشكيك الداخلي والخارجي بها، تملك أدوات مادية ومعنوية تمكنّها من الاستحواذ على نطاق واسع من الوعي ضمن بيئتها الطائفية.
إن الكثافة الطائفية في حالة "حزب الله" تحفّز وعياً طائفياً مضاداً ضمن المجموعات الطائفية، وهو وعي يزيد وينقص بحسب طبيعة اللحظة السياسية، وقد اعطت تبعات اعتذار سعد الحريري برهاناً أكيداً على ذلك، إذ بشرّت باستنفار طائفي قد يمتدّ إلى الانتخابات.
وعليه يدخل لبنان في مرحلة سياسية يشكّل حشد الوعي الطائفي أحد عناوينها الرئيسة. فالقوى السياسية المطعون في مشروعيتها الشعبية وفي أهليتها السياسية، من الداخل والخارج، تحاول الهروب من "نكستها" إلى إعلاء أصواتها العصبية والطائفية.
يحدث ذلك في وقت يبرز مناخ سياسي وشعبي جديد يرتكز على التبشير بالتغيير السياسي. وكانت انتخابات نقابة المهندسين إشارة واضحة على هذا المناخ بل كانت بمثابة ترجمة واقعية له. والسؤال المطروح: إلى أي حد يمكن القياس على هذه الانتخابات لاستبيان أفق التغيير في الانتخابات النيابية؟
في الواقع لا يمكن منذ الآن تحديد معالم المرحلة السياسيّة المقبلة بكل تفاصيلها وعناونيها، لكن الأكيد أنّ هناك إنقساماً في البلد بين وعي تغييري صاعد تمّ التعبير عنه في نقابة المهندسين وبين وعي قديم يلتفّ حول الأحزاب الطائفية والممارسة السياسية التقليدية.
لكن هذا الانقسام لكي "يتمأسس" يفترض أن يكون حول عناوين سياسيّة محدّدة تعكس طبيعة الصراع السياسي الذي يتجاوز الإنقسام بين وعي قديم وآخر جديد، ولاسيّما أنّ موازين القوى ما زالت في أيدي القوى القديمة، وبالتالي هي أقدر على التحكّم، إن لم يكن في اتجاهات الأوضاع فبمنع اتجاهها إلى حيث لا تريد.
وفي الحالين فهي تعمل وفق خطّة ممنهجة لإحكام القبضة على البلد بكلّ انقساماته، إذ لا يضيرها التحكّم بالبلد منقسماً شرط ألّا يحبط هذا الانقسام مخطّطاتها وأهمّها الإطاحة بالدستور. أي تفريغه من مضمونه وفرض أعراف على الاستحقاقات الدستورية لا تمتّ إلى الدستور بصلة. أي باختصار إخضاع الدستور لموازين القوى.
هذا الأمر يفترض أن يلقى صداه في سياق تحضير القوى الجديدة للإنتخابات. ففي ظلّ التقويض الممنهج للدستور من قبل الإئتلاف الحاكم وبالتواطو مع أفرقاء السلطة أو الطامحين إليها، يبقى العمل للتغيير ناقصاً إن لم يكن مقروناً باعادة الاعتبار للدستور وجعل الدفاع عنه والدعوة إلى إلزامية تطبيقه في صلب الخطاب السياسي للقوى التغييرية. فالإنقسام الرئيس يفترض أن يكون بين القوى التي لا تعترف بالدستور وبين القوى التي تنادي بالدستور بوصفه دليل وجود الدولة وضامنه. فوحده هذا الانقسام يمكن أن يغطّي على الإنقسام الطائفي الذي يُعمل عليه والذي يراد منه تأبيد الوضع الحالي. فلا دولة إذا أُسقط الدستور، وحينها هل ينفع التغيير؟
أمّا البحث عن دستور جديد فإنّ شرطه تحوّل حزب الله إلى حزب سياسي بحت. وإلّا فإنّ أي دستور سيكون خاضعاً لموازين القوى أيّا يكن مضمومنه التغييري.