لم يعد مصطلح أزمة يصحّ في توصيف الوضع اللبناني. لقد انتقلنا إلى مرحلة الإنهيار البلا سقف، وهذا الانتقال يستوجب قراءة مختلفة للمشهد السياسي والاقتصادي الاجتماعي ترتكز بشكل أساسي على التفكير في وقع الانهيار على الديموغرافيا السياسية. هل وقعه هو نفسه على الجميع أم هناك تفاوت في هذا الوقع على المجموعات السياسية/الاجتماعية؟
فالإجابة على هذه الأسئلة كفيلة بتسييس الإنهيار أي بوضعه ضمن إطاره السياسي الراهن وتحديد سبل التصرّف السياسي حياله وبالتالي تقدير الأولويات السياسية تبعاً لمخاطر هذا الإنهيار على الكيان اللبناني. لأنّ أي سياسة هادفة لوقف الإنهيار لا تأخذ في الاعتبار أن هذا الإنهيار هو بمثابة عدوان وحرب على الشعب والكيان هي سياسة عقيمة وساذجة أو متواطئة.
منذ فترة انتشر شريط فيديو لسيدة مناصرة لحزب الله تقول فيه "نحنا بدنا ننهار؟ بحرب تموز ما انهرنا فهلأ بدنا ننهار بالتحدي الاقتصادي؟"، وأن "السيّد عباس كان ياكل لبنة وزيتون وأم ياسر كانت تفرش جرايد محل الحصر التي تعطيها للفقراء". كلام هذه السيدة قد يعبّر عن عموم بيئة حزب الله أو لا، لكن بالتأكيد فإن كلامها يعكس فارقاً في وقع الانهيار على الشعب اللبناني، او أقلّه يعكس فارقاً في قدرة الشرائح السياسية الاجتماعية على التكيّف مع الإنهيار. مع العلم أن تقييم وقع الانهيار متصل أساسا بأنماط العيش ومستويات المعيشة السابقة عليه.
إذاً حتّى الآن ليس هناك ما يثبت أنّ الانهيار يتسبّب بهجرة جماعية من الأحزاب الرئيسية. هذا يفسّر في مكان ما سبب عدم استعجال هذه القوى تشكيل الحكومة، اي استعجال احتمالية وضع حد أو سقف للانهيار. لكنّ الإنهيار يعيد في الوقت نفسه انتاج موازين القوى ضمنه. اي أن القوى الأقدر على التكيف شعبيا مع الانهيار يمكنها ان تتحكم أكثر من غيرها بالانهيار من خلال تأخير أي حلّ سياسي.
ساعتئذن يتحوّل الإنهيار بالنسبة إلى هذه القوى هدفاً سياسياً واستراتيجياً لأنّه يمكّنها من إدامة تفوّقها السياسي، خصوصاً عندما يكون الإنهيار طارداً لأي دينامية شعبية أو سياسية بديلة على شاكلة "14 آذار" أو "١٧ تشرين". لأنّ شرط تجدّد أي دينامية من هذا النوع هو وضع حد للإنهيار لأنّ تركه بلا سقف يضعف إمكانات جمع كتلة سياسية شعبية ذات أهداف مشتركة.
إذاً الانهيار ليس عاماً في لبنان ما دامت هناك شرائح اجتماعية/سياسية لا تزال خارجه حتى الآن وهي الشرائح نفسها التي تعتبر الإنهيار موجهاً ضدّها أساساً بوصفه نتيجة للحصار المالي السياسي الخارجي عليها والذي تطال أضراره عموم الشعب اللبناني. لكن الفئات غير المتضررة من الإنهيار لا تأخذ ضرره على الآخرين في حسبانها، فالمهمّ بالنسبة إليها ألّا يتسبّب الإنهيار بخسارتها سياسياً أو أن يشكّل عامل ضغط عليها لتبديل أولوياتها حتّى ولو جاع الشعب كلّه.
وقتذاك تصبح استراتيجية هذه القوى ذات هدفين: التكيّف مع الانهيار، وضرب وتغيير النظم السياسية والاجتماعية الاقتصادية التي يمكن أن تحملّها المسؤولية عن الانهيار أو أن تُفشل سياساتها لاستغلال الإنهيار لإحداث تغييرات أساسية في الأنماط الإقتصادية الاجتماعية في البلد. أي أنّ هدفها الأوّل يصبحُ بقاءها كقوى سياسية مسيطرة أيّا تكن نتائج هذا البقاء، تماماً كما كان هدف كلا نظامي البعث السوري والعراقي وقت الحصار عليهما وكما هو هدف النظام الايراني الآن.
والتيار الوطني الحر يعتمد هو الآخر استراتيجية البقاء هذه أّيا تكن تكلفتها على المجتمع والدولة. أي أنّه يريد أن يبقى "قوياً" سياسياً حتى ولو كان ثمن هذا البقاء الإنهيار الشامل للبنان على قاعدة أنه بين النظام/السلطة والكيان المهمّ أن تبقى السلطة/النظام.