في وقت ينتظر ضباط وعناصر الجيش اللبناني صرف واشنطن مبلغ الـ67 مليون دولار المخصص لمساعدة القوات المسلحة اللبنانية من أجل تزويدهم بـ "دعم سبل العيش"، أطلّ الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله ليهاجم ما أسماه الحضور الأميركي في الجيش.
وإذا كان من البديهي أنّ ضباط وعناصر الجيش الذين يكابدون تحديات أمنية ومعيشية كبرى ويتطلّعون إلى كلّ سبل الدعم لم يستثيغوا موقف نصرالله، لكنّ الأهمّ أنّ هذا الموقف أتى في سياق استعداد الحزب للمرحلة المقبلة والتي يمكن تلخيصها بعنوانين: من ناحية فإنّ الحزب يواجه ضغوطاً دولية وعربية غير مسبوقة منذ العام 2005. ومن ناحية ثانية فإنّ الحزب يسعى إلى تكريس نفوذه أكثر في لبنان، كردّ على هذه الضغوط وكمحاولة للاستفادة من أيّ "فراغ سياسي" قد تتركه المقاربات الدولية والعربية للوضع اللبناني.
أيّ أنّ القنص السياسي والإعلامي على الجيش من قبل الحزب سواء في ما يتصّل بـ"الحضور الأميركي" فيه أو حتّى بتعاطي الجيش مع ملفّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وقبل ذلك في ما يخصّ التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، كلّ ذلك يطرح سؤالاً رئيسياً عن أسباب تبدّل لغة الحزب تجاه الجيش في هذا التوقيت بالذات. ولعلّ الجواب مرتبطٌ بسعي الحزب لإخراج النفوذ الأميركي من مؤسسات الدولة اللبنانية كما سبق أن صرّح نصرالله قبل أشهر!
لكن ألا تفرّغ هذه المواقف المتكرّرة ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة من مضمونها؟ وألا تردّها مجرّد شعار يستخدمه الحزب لإلغاء الحدود بين الدولة والحزب؟ وفي الأصل أليست هذه المواقف مقدمّة لتكريس إلغاء هذه الحدود في المرحلة المقبلة، وتكريس الحزب نفوذه في مؤسسات الدولة كلّها؟
ولا ريب أنّ هذه الاندفاعة الهجومية من جانب الحزب تجاه الجيش تعطي فكرة عن استراتيجيته للتعاطي مع المرحلة المقبلة ولاسيّما عشيّة الإنتخابات النيابية التي يكاد لا يمرّ يوم إلّا ويدعو المجتمع الدولي إلى إجرائها والمباشرة في التحضير لها. وهو ما يطرح أسئلة كبرى حول الأسباب الحقيقية وراء تلكؤ السلطة في القيام باللازم استعداداً لهذا الاستحقاق الدستوري. فهل أركان السلطة الفعلية وبالأخص حزب الله ما يزالون مترددّين في حسم إجراء الانتخابات حتّى لو ادّعوا العكس؟
هذا سؤال أساسي الآن ولعلّ التفكير في احتمالاته كفيل في استشراف طريقة تعامل الحزب مع هذه المرحلة الدقيقة. فعندما يعتبر نصرالله أنّ خصوم حزبه يخوضون هذه الإنتخابات تحت شعار "الحرب ضدّ المقاومة" وأكثر من أي وقت مضى، فهو يرفع سقف المواجهة مع هؤلاء الخصوم. بالتالي فإنّ أي تراجع من قبله عن إتمام الانتخابات في موعدها سيكون بمثابة تراجع للحزب أمام خصومه.
لكن في المقابل فإنّ الحزب يعطي إشارات كثيرة على توجّسه من نتائج الإنتخابات. فبعدما دأب قياديو الحزب على التشكيك بأنّ الانتخابات لن ستشهد أدنى تغيير، خرج نصرالله يقول أنّه من المبكر توقّع نتائج الانتخابات. كما أنّه لمن المستغرب أن يخصّص نصرالله، وهو أمين عام أكبر حزب وميليشيا في لبنان، حيّزاً من مقابلته مع قناة العالم التي تسمّر الجمهور الإيراني أمام الشاشات للاستماع إليها، للحديث عن 16 عنصراً من المجتمع المدني اللبناني زائد كلبهم. وهو بذلك يكمل الحملة التي بدأها قياديو الحزب وإعلامه منذ أشهر ضدّ منظمات المجتمع المدني الذين يتلقّون أموالاً أميركية وأوروبية للعمل ضدّ الحزب. فهل تستأهل هذه الجمعيات العشرين كلّ هذه الحملة، أم أنّ الحزب خائف فعلاً من انعكاس النقمة الشعبية المتنامية ضدّه وضدّ سائر الطبقة الحاكمة منذ خريف 2019، في صناديق الاقتراع؟! علماً أنّ رئيس الجمهورية وبالرغم من كلّ الأزمات التي يتخبطّ بها البلد في عهده إلّا أنّه لم ينس أن يشكو أمام السفراء الأجانب نشاط جميعات المجتمع المدني خارج علم الدولة!
إنّ ذلك كلّه يُفترض أن يدفع القوى المناوئة للحزب وحلفائه أن يعتبروا الإنتخابات محطّة في سياق معركة سياسية مفتوحة مع الحزب وحلفاؤه، وليست محطّة قائمة بذاتها معزولة عمّا قبلها وما بعدها، وخصوصاً لجهة استعدادات الحزب لتكريس نفوذه أكثر في لبنان أيّا تكن نتائج الانتخابات.
فإذا كان الحزب يخوض الانتخابات دفاعاً عن المقاومة فإنّ الأولى بخصومه أن يخوضوها بوصفها محطّة لبلورة خيار المقاومة السياسية ضدّ الحزب الذي يسخّر كل أدواته السياسيّة والأمنية والإعلامية للهيمنة على لبنان، بانتخابات أو من دونها!