منذ ان شارك اعضاؤها في مؤتمرات الأزهر حول المواطنة والتنوع والعيش معا، انشغلت لجنة المتابعة اللبنانية بجملة شؤون وطنية،وذلك من منظور اهتمامها بتعزيز الشراكة بين اللبنانيين. كما بحثت اللجنة من المنظور نفسه، في مداولاتها وفي اللقاءات التي عقدتها مع سفراء عرب واجانب،التطور الذي شهده دور لبنان، بل دعوته، في السياقين العربي والدولي. ووجهت الى قداسة البابا فرنسيس رسالة تضمّنت افكارها حول صون العيش وحماية لبنان والحفاظ على رصيده المعنوي وعلى صداقاته، وذلك بعدما عقدت اجتماعات عدة مع القاصد الرسولي في لبنان، المونسينيور جوزيف سبيتيري. وقامت بزيارة البطريرك الماروني، مؤيدة موقفه القائل بتحرير الشرعية اللبنانية والعمل في سبيل تحرّر لبنان من التبعية او الإنحياز الى أي محور اقليمي او دولي. كما زارت القيادات الدينية اللبنانية الأخرى، الإسلامية والمسيحية، داعية للحوار والإتفاق حول هذه القضية الحيوية.
وتقدم اللجنة في هذه الورقة القصيرة رؤيتها للعلاقة بين قضية المواطنة، وهي محط اهتمامها الأول، ومشكلة الولاءات الخارجية والإنحياز الى محور اقليمي بعينه و التي تضعف لبنان وتعمّق الإنقسامات فيه.
منذ مئة عام تشكّل "لبنان الكبير" ولم يلد من ارادة ابنائه في العيش معا، مثله كمثل الكثير من الدول الحديثة. تألف من جماعات دينية، او اجزاء منها، مقيمة على ارض واحدة ومتجاورة، في تقارب مرة وتباعد مرة أخرى. ونمت علاقات جديدة بين ابنائها بفعل الإختلاط والجيرة، في السكن والعمل والإشتراك في حياة سياسية اولية واكتساب طرائق عيش متقاربة. لم يصنع مجرد الخروج من العوالم التقليدية مواطنين في دولة. بل صار أهل لبنان لبنانيين، وان لم تكن لبنانيّتهم واحدة. ألّفوا، كل على طريقته، بين الهوية الوطنية وبين الإنتماء الى الجماعة الأصلية.
وتحقّق الإستقلال ودعّمه "الميثاق الوطني"، الذي أقام وصلا بين اللبنانيين وقدرا من الفصل بين جماعاتهم المدعوّة الى الإئتلاف وارتباطاتها الخارجية. عرف لبنان صيغة مرشّحة للتحول التدريجي الى عقد اجتماعي جديد ما بين اللبنانيين. وتعزّزت الإلفة والشراكة بين الناس. وراجت النظرة الى الطائفية وكأنها مؤقتة. لكن احداثا واضطرابات، كالتي انفجرت عام 1958، اعادت فئات واسعة من الناس الى الجماعات الطائفية ممّا وضع الكيان الوطني برمته تحت السؤال. ذلك ان "السياسة الخارجية" أمست قضية داخلية، اذ تشابكت محركات الإنقسام بين الجماعات مع مفاعيل الإنحيازات في االسياق العربي. غير ان الخلافات لم تجرّ وراءها تراجعا عن جميع المشتركات اللبنانية التي صنعها العيش معا.
وتعزّزت بعدئذ الروابط بين الناس وجنى الكثيرون فوائدها. فنبتت جذور المواطنة في الستينيّلت والسبعينيّات من القرن الماضي، الى ان عصفت بها الحروب اللبنانية والملبننة، بقوة العلاقة الوثيقة والمتبادلة بين الداخلي والخارجي، منذ سنة 1975. فعاد الإنتماء الى الرسوخ في أرض الجماعات. واقترن الفعل السياسي، فضلا عن المواجهات العسكرية، بتفوّق الانتماءات الأصلية على المواطنة المستجدّة. ومما زاد في الطين بلّه عجز اللبنانيين عن التلاقي حول بنى ورموز وطنية توحّد بينهم، فضلا عن لجوئهم، طوعا او كرها، الى طلب الحماية الفعلية او المعنوية من طوائفهم واصدقائها الخارجيين، الفعليين منهم والمفترضين. ومع التسوية التي وضعت حدا للحروب، ظهر الحنين للدولة الواحدة والنفور من الغلو الطائفي والتطرف السياسي. وبدأنا نلحظ بروز لبنانية مستعادة هي ثمرة تصالح بين الإنتماءات. ونظر اتفاق الطائف الى اللبنانيين من حيث هم مواطنين متساوين و رأى فيهم، بوقت واحد، أعضاء في جماعات لها هواجس وتطلعات خاصة. وما نطام المجلسين الذي قال به الا محاولة للتأليف بين حقوق الأفراد وحرياتهم، وهما أساس المواطنة، وبين مطالب الجماعات وحقوقها.
ومهما كان من امر ازدواج انتمائهم، صار اللبنانيون مواطنين في الدستور المنبثق عن اتفاق الطائف. وعقد المواطنة الحق يقوم على المساواة بين الأفراد مهما رفعوا من شأن انتمائهم إلى جماعاتهم. واللقاء بين المواطنين الأشخاص هو الذي يجدد العيش المشترك، حسب المصطلح الذي يحلو لنا نحن اللبنانيين أن نردده حتى أنه وضع في نص دستورنا. غير أنه غالباً ما بات كناية للحديث عن تقاسم السلطة بين الطوائف أو بالأحرى بين القوى ذات التمثيل السياسي الأوسع لها. فيلبس تارة لبوس الوحدة الوطنية وطوراً حسب رديف الديموقراطية المسمّاة توافقية. غير أن العيش المشترك الحق هو لقاء بين مواطنين يقوم على الرغبة في البقاء معاً، يجسّدها الاختلاط والتبادل والتفاعل في الاقتصاد والاجتماع والثقافة. ويستدعي العيش معا سعيا مستمرا لتحقيق الشراكة في القيم. ويقتضي ايضا نقد الجوهرانية الطائفية التي تقول بشخصية متجانسة للجماعة ثابتة في خصائصها اي لها طبائع مميزة لها ونوع من الجوهر يتجسد في الأفراد.
واليوم، لم تعد الطائفية مستترة او محرجة، اي انها تعد محتاجة إلى ارتداء الأقنعة. زادت الاتهامات والنعرات، وهي في قلب سياسات الهوية التي تتصارع على الدولة وتقوّض وحدتها وأدوار مؤسساتها الواحدة تلو الأخرى. تراجعت إذاً فكرة المواطنة. وباتت الشراكة في القيم بوصفها شرط المواطنة أكثر تأزماً بل غير قادرة على الحؤول دون انقلاب الإختلاف تناقضا جذريا ينذر بالعنف ويوقظ الفتنة. كما تبيّن عجزها عن انتاج معايير وأعراف تسمح بتعامل عقلاني مع التعارض في المواقف. وبعبارة أخرى، تقف المواطنة اليوم في مواجهة العصبيات، المتجددة او المعاد اختراعها. وهي لا تتعالى على النعرات ولا تشفى من امراضها إلاّ إذا أخذت الناس نحو الخير العام وأولية المصيريات على الصغائر.
ويعيدنا هذا الواقع الى بداهة القول ان المواطنة تقوم على وعي أكبر بالمساواة بين الناس الذين يعيشون على أرض واحدة والى تحقيق استقلال الدولة عن السلطة، سلطة الجماعات المتواجهة او المتنافسة. بطبيعة الحال ليس من مواطنة حقيقية في لبنان من دون تكوّن كتلة كبيرة من المواطنين الآتين من كل الجماعات. لكن التحرر من عصبيات الجماعات ومن الولاءات لزعمائها في مد وجزر متواصلين. فمن يمثلون الطوائف اللبنانية في الدولة مهتمون اولا بالصراع عليها ويقيم بعضهم دولة داخل الدولة وخارجها لها سياستها الخاصة في العالم العربي والجوار الإقليمي. وفي هذه الحالة، باتت الولاءات والإنحيازات محددا اوليا لهوية الجماعة واحد اسباب قوتها ومعيار خياراتها السياسية والإجتماعية والثقافية. ويعني ذلك ان الإرتباطات الخارجية تتحكّم، على نحو جلي، في الأوضاع الداخلية الى الحد الذي اصبح، بنظر الكثيرين، يهدّد الشراكة بين اللبنانيين وهي اساس المواطنة.
بعبارة أخرى، لم يعد خافيا على فئة واسعة من اللبنانيين ان الإتفاق على الخروج من التبعية لجهة خارجية ومن الإنخراط في محور اقليمي ضرورة لحماية عقد المواطنة الذي يحفظ وحدة لبنان.