الإنسان يتعوّد على كل شيء، هذا الجبان!
دوستويفسكي
يسود في لبنان منذ سنوات خطاب رسمي وإعلامي يقول إن ما يهدّد الاستقرار النقدي، وتحديدًا سعر صرف الليرة، هو العجز المالي والدَين الحكومي المتصاعدين. لهذا الخطاب لازمة مكمّلة تدّعي من دون تفسير أن السياسة النقدية الحكيمة لمصرف لبنان هي التي توقف الانهيار، وتدعم الاقتصاد بكل قطاعاته تقريبًا. وهذه لازمة يردّدها الإعلام المرئي والمكتوب بشكل شبه يومي، وسط ضباب كثيف من التهليل والبخّور.
نقول إن المصدر الرئيس للمخاطر التي تهدّد الاستقرار النقدي في لبنان ليس في السياسات المالية فحسب بل أيضًا، وبدرجة مساوية إن لم تكن أكبر، في السياسة النقدية المتبعة منذ سنوات من مصرف لبنان. لذا نبيّن أدناه المخاطر الكبيرة التي تحملها السياسة النقدية في لبنان والتي نستغرب تجاهلها والصمت المريب حولها.
ماليًا، لم يكن أحد يتوقّع هذا المبلغ، أكثر من 11 مليار دولار، كقروض مساعدة اقرّها مؤتمر "سيدر" للبنان في نيسان الماضي. والهدف غير المعلن للمؤتمر، بقيادة فرنسا، كان فعلياً إنقاذ النظام اللبناني من انهيار نقدي يزداد احتماله يومًا بعد يوم، وذلك من خلال ضخ أموال تحفّز النمو الاقتصادي بفعل تطوير البنية التحتية بأجملها وفي الوقت نفسه حث السلطات على القيام بإصلاحات.
القروض الموعودة تأتي مشروطة بتنفيذ إصلاحات لم يذكر منها الرئيس الفرنسي ماكرون والرئيس الحريري خلال المؤتمر سوى إصلاح واحد فقط: تخفيض العجز المالي في الموازنة بنسبة 5% من الناتج المحلّي لمدة خمس سنوات، أي تخفيض العجز بمعدّل حوالى 600 مليون دولار سنوياً. هذا تخفيض ضئيل نسبة إلى حجم المشكلة إنما صعب التنفيذ من قِبل سلطة ترى في أي تقييد للنفقات العامة تقييدًا لمنافعها (مما يترك لها مخرج زيادة الضرائب إذا أمكن). ماذا كانت ردة فعل السلطة اللبنانية إزاء هذا الشرط الإصلاحي الأساسي المحدّد في مؤتمر "سيدر"؟ ردّت السلطة بضرب يد الإنقاذ الممدودة إليها وأظهرت عدم اكتراث مهين من خلال إنتاج عجز قياسي خلال أول تسعة أشهر من عام 2018 مقداره 4,5 مليار دولار، ما يعني أنّ العجز المالي للعام كلّه سيصل إلى أكثر من 6 مليار دولار مقابل أقلّ من 5 مليار دولار في قانون موازنة 2018.
الموازنات العامة في لبنان لم تعد موازنات دولة بل تشبه موازنات شركة مساهمة للمحاصصة وتوزيع المنافع. ولقد أُقرّت موازنات 2017 و2018 من دون قطع حساب، أي بمخالفة دستورية واضحة، كذلك اعترف وزير المال أن "كل البنود الإصلاحية التي جاءت في موازنة 2018 لم تُنفّذ". لا بل، أُدخل أكثر من 5000 موظف إضافي إلى جنّة القطاع العام، بمخالفة وازدراء لقرار مجلس الوزراء. لقد أصبحت ممارسات السلطات التشريعية والتنفيذية في لبنان من دون ضوابط دستورية أو قانونية، أي من دون رادع. والفساد المستشري ليس سوى استطراد منطقي لهذا الواقع، وهو فساد متأصّل في نفقات وإيرادات القطاع العام والذي لا يمكن أن يحصل من دون موافقة وإمضاء مسؤولين في السلطات التنفيذية والتشريعية. لذلك فالدعوات الرسمية المتكررة لمواجهة الفساد هي دعوات مضحكة - مبكية، إذ كيف يمكن للمسؤول عن الفساد أن يحارب فساده والفساد الذي يغطّي؟
ويجدر لفت الانتباه أيضاً إلى أن العجز المالي الفعلي هو أعلى بنسب ملحوظة مما يُعلن رسمياً. ويعود هذا إلى أنه، بحسب المنهجية الدولية المعتمدة في ما يخصّ حسابات المالية العامة، يقتضي إضافة أية خسارات للمصرف المركزي، والتي تُسمّى "شبه عجز مالي"، إلى العجز المالي العائد للموازنة. لكن مصرف لبنان يحجم منذ عام 2002 عن إعلان أو نشر أي حساب أرباح وخسائر، إلا أننا نقدّر خسائره المتراكمة خلال السنوات الخمس الأخيرة ﺑما يوازي 12 مليار دولار على الأقل يجب إضافتها إلى العجز المالي المعلن خلال الفترة نفسها.
وسبب هذه الخسائر واضح. يستدين مصرف لبنان من المصارف اللبنانية دولارات بنسب فوائد أعلى بكثير مما يجني من إيداع تلك الدولارات في المصارف العالمية. تلك خسارة واضحة يُضاف إليها خسارة كبيرة جديدة ناتجة عن إقراضه المصارف بالليرة، بالموازاة وبمثابة "إكرامية" لإيداعها دولارات لديه، بفائدة 2% في حين تعيد المصارف فورًا إيداع تلك المبالغ بالليرة لدى مصرف لبنان إنما بفوائد تصل إلى أكثر من 8% سنوياً. لقد ارتفع حجم تلك القروض بالليرة من مصرف لبنان للمصارف التجارية إلى ما يوازي 32 مليار دولار في آخر عام 2018، بعد أن كان يوازي أقل من 6 مليار دولار فقط في آخر عام 2016! أما خسارة مصرف لبنان الناتجة عن هذه القروض الجديدة بالليرة فقط فتوازي على الأقل ملياري دولار خلال السنتين الماضيتين.
نشير بالتفصيل إلى السياسة النقدية لمصرف لبنان، المتمثّلة أساسًا بهندساته المالية، لأنها أصبحت عبئًا كبيرًا، لا بل خطراً، على النقد والمالية العامة والاقتصاد ككل، عبئاً يتراكم يوميًا وبالأخص على مصرف لبنان نفسه. فحاجته المتزايدة لاقتراض العملات الأجنبية، لِنَقُل الدولار، وبفوائد أعلى بكثير مما هي عليه في الأسواق العالمية أصبحت مكلفة جدًا. أما ارتفاع نسب الفوائد بشكل ملحوظ في لبنان فيعود أساسًا إلى ارتفاع قوي في كلفة هذه الهندسات وليس إلى ارتفاع الفوائد الطفيف نسبياً في الأسواق العالمية.
وعلى نقيض الشائعات الإعلامية شبه اليومية فإن الهندسات المالية لمصرف لبنان لم تحقّق أيًا من أهدافها المعلنة، بل على العكس، جعلت الوضع النقدي والمالي أكثر عرضة للمخاطر والاهتزاز. فاحتياطات مصرف لبنان بالدولار بقيت تقريبًا نفسها منذ منتصف عام 2016، تاريخ ابتداء الهندسات المالية، رغم اقتراضه الإضافي من المصارف ما يزيد عن 35 مليار دولار خلال تلك الفترة. وميزان المدفوعات بقي سلبيًا لا بل تدهور مؤخرًا بشكل لافت بعد تسجيله عجزًا ﺑأكثر من 4 مليار دولار خلال أحد عشر شهراً من العام الفائت. كما برزت ظاهرة جديدة مقلقة في التدني بالمطلق لحجم قروض المصارف للقطاع الخاص، تدنٍ كبير يصل إلى ما يوازي أكثر من 6 مليار دولار خلال الفترة نفسها إذا اقتطعنا الفوائد المتراكمة. وظاهرة التدني هذه تحدث رغم الارتفاع القوي والاستثنائي للقروض بالليرة من مصرف لبنان لصالح المصارف التي ذكرنا أعلاه. فخلال العام المنصرم وحده إزدادت القروض هذه للمصارف بما يوازي أكثر من 26 مليار دولار، أي ما يعادل أكثر من ثلث الناتج المحلي، في حين لم تذهب ليرة واحدة من هذا الإقراض الضخم إلى القطاع الخاص أو إلى النشاط الاقتصادي عامة. لقد دفعت السياسة النقدية المصارف إلى الانسحاب تدريجاً من تمويل النشاط الاقتصادي وإلى حصر علاقاتها المربحة جداً بمصرف لبنان فقط. والنتيجة الأكثر ضرراً لهذه السياسة هي ربط وضعيّة المصارف بمصرف لبنان بشكل غير اعتيادي إذ أصبح أكثر من نصف مجمل ميزانيات المصارف يمثّل قروضاً لمصرف لبنان وحده. وهذا وضع غير صحّي بأي معيار للنظام المصرفي وللاقتصاد كلّه.
لبنان ليس في حاجة إلى إصلاح، لبنان في حاجة إلى إنقاذ. وبسرعة، لدرء أخطار نقدية ومالية داهمة. قال الشاعر الفرنسي بودلير "ننزل دومًا إلى الجحيم بخطى صغيرة"، ولقد كبرت وتسارعت خطواتنا إلى "الجحيم" في الآونة الأخيرة. الإنقاذ لا يزال متاحًا، ربما كفرصة أخيرة، لكنه يتطلب قرارًا سياسيًا جريئًا بشكل إجراءات محدّدة وسريعة تأتي نتيجة اتفاق راسخ بين الرؤساء الثلاثة، تحديداً:
إنما للأسف، بعد نصف قرن من الاحتلالات، فقدنا في لبنان ثقافة المساءلة وحتى ثقافة السؤال. لا نتوقّع أن تنفّذ السلطة أيًا من هذه الإجراءات الإنقاذية. ولامبالاتها المذهلة أمام مخاطر الانهيار المتزايدة هي في نهاية المطاف تصرّف منطقي. فأموالهم بالدولار واليورو خارج لبنان تكفيهم لأجيال، ولا من يجرؤ على مساءلتهم. وإذا ما أتت محاسبة، وكلنا نعلم أنها لن تأتي، فالمواجهة بالتجييش المذهبي والطائفي غب الطلب.
السلطة وشركاؤها منغمسون في عالم المحاصصات، والشعب اللبناني بمشاكله وهمومه في عالم آخر. والمستغرب أن اللبنانيين يأملون حلولاً لمشاكلهم من سلطة هي المصدر الرئيس لتلك المشاكل. فالتدهور مستمرّ في أساسيات عيش اللبنانيين من هواء ومياه وغذاء وكهرباء وتأمين كلفة العيش، كما في الوضع الاقتصادي برمّته، نتيجة جشع وأذى هؤلاء الممسكين بمقدّرات البلد. في كل الأحوال، يبدو أن وقت الإصلاح قد مضى وأتى وقت التغيير الجذري.
توفيق كسبار 14 كانون الثاني 2019 | 00:05