كُثُر جدّاً الأفراد الذين حضروا ذكرى مقتلة لقمان سليم الثانية. هم أفراد ليبراليون يعتقدون عن شيء من الصواب وأكثر من الخطأ أنّ العالم تحكمه قيم أخلاقية تتقدّم على السياسة وإرهاصاتها. المسافة الفاصلة بين الصواب والخطأ أظهرتها السفيرة الأميركية دوروثي شيا في خطابها. كان الخطاب فاصلاً بين زمنَيْن.
في العام الماضي، خلال الذكرى الأولى، صدحت شيا في ضاحية بيروت الجنوبية، التي تحوّلت منذ زمن إلى عاصمة لبنان الأمنيّة والسياسية، بوجوب انتصاب ميزان العدالة لمحاسبة قَتَلة لقمان. شدّدت آنذاك على معنى الحقيقة وجوهرها الأخلاقي. أمّا في الذكرى الثانية فسجّلت فوارق بين الخطابين، فبدت المتحدّثة كما لو أنّها راهبة تُلقي عظةً عن المحبّة ووجوب تجنّب البغضاء والكراهيات.
شيا في خطابها، الذي ألقته تحت ظلال سلاح حزب الله المستتر، وفي حضور الجيش الذي يفطن للضاحية فقط في المناسبات ذات الطابع الرسمي، أظهرت على معنى من المعاني أنّ القتل وجهة نظر قابلة للتحقّق، خصوصاً في بلد مثل لبنان حيث لا أبنية قانونية وقضائية قادرة على النهوض بتحقيق يتعلّق بالمرفأ وباغتيال لقمان وبالكثير الكثير من القتل الذي صار عاديّاً. هذه بلاد أكثر ما تفعله هو ادّعاء الانتساب إلى العالم مع قدسيّة بلهاء للأجهزة الأمنيّة والقضائية. ومقتلة لقمان تقول أكثر: هذه بلاد تُحبّها وتزدريك.
لقمان الذي بعث قضيّة المخطوفين والمغتالين كان مصيره على مثال ما خاضه. كان همّه كشف المستور في ملفّ المخطوفين والمفقودين، وأرشفة ذاكرة الحرب
الذين خاطبتهم شيا هم بطبيعتهم أفراد خرجوا على طوائفهم وجماعاتهم الأهليّة. ولقمان كان كلّ شيء في الثقافة والمعرفة. للقمان حقٌّ لم يأخذه في الاحتفال الذي أعدّته شقيقته رشا الأمير بكثير من الحبّ والاحترام لشقيقها وللحضور. لكنّ صدى صوت الولايات المتحدة في ضاحية "حزب الله" كان يُعلن بوقاحة أنّ العالم يشتغل على قاعدة المصالح لا الأخلاق التي بدت لزوم ما لا يلزم. تجارب واشنطن في المجال اللاأخلاقي عديدة وكثيرة. أكثر البرهنات عليه تبدأ من فيتنام وتنتهي بالانسحاب من كابول وبينهما العراق.
لقمان سليم اسم علم في الكتابة والسينما والمسرح والنقد والنشر. حاول ما استطاع سبيلاً أن يشقّ للعدالة دروباً في لبنان وفلسطين وسوريا. فكّر على الدوام بلبنان الأكبر من ذاك الذي صنعه القناصل. حاول جاهداً تنسيب البلد وأهله إلى العالم المشرق غير المحكوم بالعصبيّات وعصبويّة الأفكار.
مشروع "العدالة" في سيرة لقمان
انكبّ لقمان على تكريس العدالة بوصفها أساس الدولة، وذلك ما كان يستأهل قتله. كلّ جهده انصبّ على الأفكار بما هي ضمانة استمرار البشرية. هو مواطن، وهذا صحيح، لكن ما كان للمُكرّمين من السفراء والحضور أن ينزعوا عنه ما امتلكه وحازه من صفات. والمقتلة التي أًنزلت به ما كان أصلها صراعاً على حيازة حقوق. لقد سقط صريع أفكاره. كان يقاتل لانتصار العقل لا الغرائز التي طالبت شيا بكبحها. بالاستدلال المعاكس لخطاب السيّدة الأميركية وحضورها في الضاحية، نصل إلى خلاصة مفادها أنّ السياسة تبحث عن الأقوياء لعقد التسويات، ولا همّ لها في شؤون الضعفاء.
في السياسة يُهزَم الضعفاء. الضحايا يصبحون مرذولين متى كان ذكر أسمائهم وحده سبباً لتوتير علاقات مصلحيّة. وفي هذا النوع من السياسة ينتصر القتلة. لقد انتصر قتلة لقمان سليم كما انتصر كلّ القتلة في تاريخ لبنان: يميناً ويساراً، وأيضاً مؤمنين ومُلحدين.
والمفقودين، وأرشفة ذاكرة الحرب، على قاعدة أنّ العفو المجّاني عن القتلة ليس إلا فاتحة لأعمال قتل جديدة... وكان على حقّ.
كان مقتنعاً بأن لا حياة للجهلة والذين سلّموا أقدارهم لعصبيّات أهليّة لا تبعث إلا على القلق والقتل المستمرّ. في كلّ خطواته كان يقول "لا للصوت الواحد"، و"لا حقائق أبديّة". برع في نبش الماضي مُستدعياً القتلة واحداً تلو الآخر. لبنانيّته الصافية حفّزت وعيه الأخلاقي فكان أن اصطفّ إلى جانب المقهورين من فلسطينيّين وسوريين. رفض النصوص الثابتة. أكثر من ذلك، فقد رفض كلّ ما كان يُنزل على أنّه نهائيّات سياسية أو معرفيّة.
في حديقة المنزل الذي يتميّز عن الأهل والمنطقة تحلَّق المئات ممّن يعتقدون بما كانه لقمان سليم. الواقفون منهم الليبرالي. بعضهم يتناسل من عقل يساري تصالح مع ذاته ومع الهزيمة الثقافية للماركسية. آخرون وفدوا لقول شيء ما لـ"حزب الله".
كان ثلاثيّ الأمّ سلمى مرشاق والزوجة مونيكا بورغمان والأخت الرائعة رشا الأمير يأسر عن غير قرار كلّ المقهورين من هذا الموت. أكاليل الورود البيضاء كانت كثيفة، لكنّها لم تحجب "الضريح الرمز". الأمّ سلمى المصريّة الهوى والهويّة تتحدّث عن لبنان. لبنانيّتها وخوفها على الوطن الهشّ أقوى من كلّ شيء. في الحديقة ملصقات تنادي بالانتصار للصوت على كاتم الصوت.
رشا حاولت ما استطاعت أن تصرخ مطالبةً بالعدالة. جرأتها أثبتتها برذل السياسة لصالح الأخلاق ومفهوم العدالة الذي لا يتجزّأ. كان كلامها واضحاً وضوح الشمس. لمن لا يصدّق عليه الوقوف أمام شجاعتها المنبريّة والشخصيّة.
دارة صوت.. في البرّيّة
دارة آل سليم بدت كصوتٍ صارخ في البرّيّة. تفرّدت هذه الدار كعادتها في استدعاء أسئلة المعرفة. كان السؤال: "ما هي صلة العقل بالمعرفة؟". هذا السؤال هو الأبرز بين ثنايا الحضور. كلّ الذين أتوا ينتسبون إلى الضاحية كجزء من وطن وليس الوطن كلّه.
شيء وحيد كان عصيّاً على التبديد: رهبة غياب لقمان. قبل ذلك جرأته في مناقشة اعتبار "زمن الهزائم" وقد ولّى، وقد وقّع لبنان "الترسيم البحري" مع العدوّ الإسرائيلي. لقمان بطبيعته مشاغب. كثيرة وعديدة المحاولات التي بُذلت لضبط حركته، وبعضها حاولها كاتب هذه الأسطر. لكنّ المغدور غيلةً وكراهيةً كان فيه شيء من شيعيّة مُكتسبة بالولادة وبالهويّة في مواجهة طغيان حزب الله: "ألا فإنّ الدعيَّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السَّلّة والذِّلَّة، وهيهات منَّا الذِّلَّة. يأبى الله لنا ذلك ورسوله وحجور طابت وطهرت أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام".
هذه "الشيعيّة" كانت تروم لبنانَ جديداً غير ذلك الذي صُنع تحت عنوان "لبنان الكبير". كانت نظرته إلى "لبنان أكبر" بعدما تولّدت لديه قناعةٌ بـ "لبنان جديد" كان يُبشّر به أو يتساءل عنه.
عاكس لقمان سيرة ومسيرة الأهل. في زمن مضى وتحديداً في ثمانينيات القرن الماضي انتقل والده وأسرته إلى باريس. لكنّ لقمان قرّر ورشا، شقيقته التي تقاتل باللحم الحيّ، العودة إلى بيروت على أساس قناعة مفادها أنّ لبنان هو بلد التنوّع وصاحب القدرة الاستثنائية على توليد الأفكار وإنتاجها.
منذ عودته شرع لقمان ورشا وصْل البلد المقطّع الأوصال. حاولا وبجهد استثنائي مواجهة التصحير الثقافي والسياسي والإسلاموي والأمنيّ بدعوى "تحرير فلسطين" خبط عشواء. كانا يريدان القول بالفعل: "المجد للصوت... لا لقاتل الصوت".
*نُشر على صفحة أساس-ميديا