ما إن بدأ العالم يستعدّ للإنتهاء من جائحة كوفيد – 19 التي خلّفت وراءها تبعات كبيرة على الإقتصاد العالمي وأنماط عيش البشر، حتّى وقعت أوروبا ومعها العالم من جديد تحت الصدمة بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا الذي ستكون له ارتدادت جيوسياسية كبرى لا على أوروبا وجسب بل على العالم بأسره، خصوصاً أنّ السلاح النووي عاد ليحضر في صلب التحديات الأمنية للعالم المعاصر.
ما يزال من المبكر التكهّن بمآلات الحرب في أوكرانيا، خصوصاً في ظلّ اضطرار روسيا لتبديل استراتيجياتها القتالية بعدما واجهت قوّاتها مقاومة شرسة داخل الأراضي الأوكرانية. وللتذكير فإنّ الكرملين عندما أرسل قواته للهجوم على الشيشان في كانون الأول 1994 قال إن "الجيش الأحمر" سيسحق المتمردين الشيشان خلال 48 ساعة. لكن العملية العسكرية الروسية هناك استغرقت 5 أسابيع لتتمكن القوات الروسية من الوصول إلى القصر الرئاسي في كانون الثاني 1995 بعد قصف جوي وبري عنيف طاول مناطق المعارك. ثمّ دام الصراع سنتين واستتبع بآخر في العام 1999.
هل يتكرر سيناريو الشيشان في أوكرانيا؟ هذا سؤال لا يمكن الإجابة عنه الآن، ما دام الاجتياح الروسي لأوكرانيا ما يزال في طور التصعيد التدريجي من دون أن يتمكن الجيش الروسي في اليوم السابع للهجوم من احتلال أي من مدينة أوكرانية كبرى.
الأكيد حتّى الآن أنّ الغزو الروسي لأوكرانيا وحّد الغرب ضدّ موسكو بشكل سريع ومفاجئ وغير متوقّع حتّى بعد كثرة التباينات واختلاف الأولويات داخل حلف شمال الأطلسي وحتّى داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاستفادة منه طيلة الفترة الماضية. وقد اعتبر أنّه تفوّق على الأوروبيين عندما عقد قمّة ثنائية مع الرئيس الأميركي جو بايدن في جنيف في حزيران الماضي باعتبار أنّ القمة كرّسته المحاور الرئيسي لواشنطن في أوروبا. خصوصاً أنّ بايدن حاول إقناع الأوروبيين أنّ الأولوية القصوى الآن هي لمواجهة المارد الصيني بينما كان الأوروبيون يستشعرون الخطر الآتي إليهم من موسكو، إلى درجة أنّهم عادوا لطرح فكرة إنشاء قوّة دفاعية أوروبية مشتركة لتأمين بغية الاستقلال عن المظلّة الأمنية الأميركية.
لقد أثبت ردّة الفعل الغربية السريعة والموحدّة ضدّ الغزو الروسي لأوكرانيا أنّ الغرب كان يستعدّ فعلاً لهذه المواجهة ويحضّر الوسائل الفاعلة للتعامل معها بحسم. فالأوربيون تعاملوا مع الهجوم الروسي على أوكرانيا بوصفه هجوماً على كامل أوروبا وبالتالي فإنّ مصير القارة الأوروبية يتحدّد الآن في شوارع خاركيف وكييف.
حتّى ألمانيا التي كانت تدفع الاتحاد الأوروبي لتبني سياسات احتواء وتفهم لهواجس موسكو الأمنية والإقتصادية، أجرت تحوّلاً استراتيجياً في سياساتها الدفاعية إذ قررت تخصيص 2 في المئة من ناتجها المحلي على الإنفاق الدفاعي وتزويد أوكرانيا بالأسلحة. كما خرجت فنلندا والنروج على حيادهما التاريخي وقررتا إرسال الأسلحة إلى أرض المعركة. كذلك التزمت سويسرا الحيادية بتطبيق العقوبات الغربية على روسيا.
أضف إلى ذلك أنّ تعليق ألمانيا للعمل في مشروع "نورستريم -2" الذي كان من المتوقّع أن يضاعف كميّة الغاز التي تضّخها روسيا إلى أوروبا، يعدّ دليلاً واضحاً إلى مدى التصميم الألماني والأوروبي على ردع روسيا عبر إيلامها إقتصادياً وفتح الطريق أمام الاستقلال الطاقوي والإقتصادي عنها. فألمانيا تستورد 55 في المئة من احتياجاتها من الغاز من موسكو، وبالرغم من ذلك فهي لم تتردّد في تعليق المشروع المذكور.
لذلك فإنّ التحدّي الرئيسي أمام بوتين سيكون في كيفية التخفيف من وقع العقوبات الإقتصادية الغربية على قطاعي المال والطاقة في روسيا وعلى رجال الأعمال المقربّين من النظام. فالعقوبات الجديدة المفروضة على موسكو هي أقوى بكثير من تلك التي فرضت عليها بعد ضمّها للقرم في 2014. وقد تمّ هذه المرّة استهداف البنك المركزي الروسي لشلّ قدرته على الالتفاف على العقوبات.
بالتالي فإنّ التطورات الميدانية في أوكرانيا ليست وحدها ما يحدّد المكتسبات أو الخسائر الجيوسياسية لروسيا. فعزلة موسكو السياسية والإقتصادية وحتّى الرياضية سترتّب تبعات هائلة على الإقتصاد الروسي وقد تكون لها ارتدادات سياسية داخل موسكو. خصوصاً أنّ تحالفات موسكو الدولية لا تضمن لها إمكانات كافية للالتفاف على العقوبات الجديدة، لا سيّما أنّ بكين ترتبط بمصالح إقتصادية استراتيجية مع الغرب وهي لن تضحّي بها لأجل موسكو.
... ها هي الحرب تندلع من جديد في قلب أوروبا بعد أنّ ظنّ الأوروبيون أنّ السلام أصبح واقعاً مستداماً في قارتهم بعد 77 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية التي دمّرت أوروبا. لكن الفيلسوف الفرنسي أوغست كونت كان قد توقّع في القرن التاسع عشر ألّا تحصل حروب جديدة في أوروبا، لكنّ حربين عالميتين وقعتا في القرن العشرين!