عندما لبّيتُ دعوة الصديق جمال سعيدي إلى معرض نظّمته نقابة المصورين الصحافيين في لبنان تحت عنوان "ذكرى وعبرة"، كنت ألبّي نداء الذاكرة لأفتش عن منبت الرحلة التي لا يزال لبنان يتوه في مجاهلها من دون أن يصل إلى محطته الأخيرة ليستقر ويستكين.
دفعني إلى تلبية الدعوة، الحافز الكامن للتفتيش عن مبنى بيتي الذي انتقلتُ إليه بحكم الزواج، لعلي أجده معلقاً على جدران "بيت بيروت" في السوديكو. سألتُ عن صور "الرينع"، أي جسر فؤاد شهاب، الذي قضم جزءاً من شرفة المبنى عندما أنشئ ليربط شرق بيروت بغربها، وحوّل الدخول إلى "البلد"، أي الوسط التجاري، مروراً بحي العازارية، عبر درج.
صحيح أن الاحداث الأولى للحرب اندلعت بين عين الرمانة والشياح، لكن القنص الذي قطع "الرينغ"، كان الخطوة الأولى لعزل الوسط تمهيداً لقتله. وهذا ما حصل.
حينذاك، كانت الألوان بالأسود والأبيض، وكذلك القيم والمفاهيم وحِدَّة النزاعات بين "الثوار" التقدمين و"الانعزاليين" اليمينيين. وكان صوت الراحل شريف الأخوي أهمّ من وسائل الاتصال الاجتماعي، وأصدق منها، به نستعين لنعرف كيف ننجو من الرصاص والقذائف وحواجز الخطف على الهوية التي تلت الرصاصة الأولى.
في معرض "ذكرى وعبرة"، عثرتُ على بيتي الذي يطل على "الرينغ"، وما أدراكم ما "الرينغ"!
منطقة مكشوفة لمصيدة القناص، يختار ضحاياه من الانتحاريين العابرين، وكنت الشاهدة الخائفة في الحي الذي اختصر تطورات الحرب وصولاً إلى ما هو عليه اليوم.
بغفلة أو بوعي، كان السيناريو يرتسم تحت الدرج، بمقاتلين من الوافدين عليه بعد التهجير المنهجي لأهله الأصليين، من مسيحيين ومسلمين.
طبقة المقاتلين نمت من بعض مناصري منظمة التحرير الفلسطينية في البداية، ومع موجات التهجير المتبادلة بين الشرقية والغربية، حلّ في الحيّ مهجّرو النبعة والكرنتينا، واحتلوا البيوت التي هرب منها ملاّكها.
بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، خلع مناصرو أبو عمار كوفياتهم، وانخرطوا في الميليشيات التي تولّت استكمال جولات الحرب بالعناوين الجديدة التي طرأت عليها. المهجّرون انخرطوا في صفوف الميليشيات، وتمددوا إلى بيوت مَن لم يتهجروا، وأرغموهم على النزوح.
في الجهة الأخرى من "الرينع"، كان مقاتلو الشرقية بدورهم، ينتقلون من ولاء إلى ولاء، وأيضاً كانوا في معظمهم من مهجّري الدامور والجبل، وغيرها من المناطق، وهم أيضاً احتلّوا بيوت الآخرين، وتساووا مع الضفة المقابلة من المتاريس في أدائهم ومصالحهم الصغيرة التي خدمت مصالح الكبار.
بعد اتفاق الطائف، حظي مهجّرو الحيّ بالنسبة الكبرى من تعويضات مشروع "سوليدير"، على حساب المالكين الأصليين، في حين حظي قادتهم بالسيطرة على لبنان، ولا يزالون.
من يغفل ما تحمله صور المعرض من سرد سياسي، لن يستطيع ان يفهم كيف يمكن اللعب بمصير بلد خدمةً لمخططات أكبر منه. ليس كافياً أن يقتصر دورها على العبرة، بأن "تنذكر ولا تنعاد". لعل وظيفتها أن تتحول بدورها إلى "رينغ"، يصل أسود الصور وأبيضها، بكل هذه الألوان المتداخلة والقاتمة المخيمة على دائرة الرؤية لما حصل بعد الطائف وبعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبعد الحرب السورية وبعد إمساك محور الممانعة بمفاصل الخراب في الإقليم.
صور المعرض تحكي بصوت عالٍ عن "البروفة" اللبنانية، التي انتقلت إلى الدول العربية من العراق واليمن وسوريا إلى مصر وليبيا والجرائر وتونس والسودان. وهي لن تنتهي على ما يبدو.
صحيح أن حدود الجبهات والمتاريس في لبنان انحسرت وحُصِرَت بما تتطلبه كل محطة من محطات الحرب التي لم تنته فصولها إلى اليوم، في حين فتحت أبواب الجحيم في الدول التي تبحث شعوبها عن السيادة والكرامة ولقمة الخبز. لكن الصحيح أيضاً ان ما صُنع في لبنان، تحوّل الى سلعة رائجة، لها زبائنها وتجارها الكبار والصغار، من القوى الدولية إلى القوى الإقليمية.
فالحرب اللبنانية التي بدأت تقدمية ضد الانعزالية، أو لبنانية سيادية ضد البندقية الفلسطينية، انتهت مذهبية، وعقدت طائفها على حصص الطوائف. وبنت تسويتها على غبن أو مكاسب لهذه الطوائف.
الربيع العربي الذي بدأ ثورة سلمية، تحول إلى حروب دموية باسم الدين. ولا تزال الرحلة مستمرة.
العبرة لا تقتصر على وقف الحرب، لكن على طريقة بناء الوطن بعد هذه الحرب، بكل دمارها ومفقوديها وشهدائها وقادة ميليشياتها الذين تولّوا قابضين على مصيرنا، وكلٌّ منهم يعتبر نفسه البطل والضحية. وكلٌّ منهم لا يستغني عن وجود الآخر ليكتمل به حضوره ونفوذه.
أما البيت الذي نبشتُ صورته من على جدران مبنى السوديكو المنخور برصاص المحاور، فقد تحوّل موقفاً في مشروع "سوليدير"، في حين بقي "الرينغ" يصل شرق بيروت بغربها، أو يفصل بينهما، وبقي شباب "الخندق الغميق" حاضرين ليقطعوه بالدواليب المحترقة عندما يشير إليهم قادة ميلشياتهم بذلك.