هذه المرة نرفع له القبعة على امل ان تكون "الثالثة ثابتة"! نعم البطريرك الماروني على حق وقد اصاب الهدف بوضوح. لماذا يطالب بحياد لبنان؟ لأنه استنتج بعد أكثر من ثلاث سنوات على دعمه ل"الرئيس المسيحي لقوي" ان البلد على حافة الانهيار اقتصاديا وماليا، وان الصيغة اللبنانية في مهب الريح، وان الرئيس ليس، او لم يعد، سيد قراره! لقد غامر البطريرك بموقف بكركي التاريخي، السيادي الحر والمستقل والوطني الجامع، لكي يؤمن لعون غطاء الكنيسة ودعمها، ولكي لا يبقى أسير تحالفه مع "حزب الله". الا انه استنتج ان لبنان اصبح مسلوب الارادة والقرار، وبات منحازا وتابعا للمعسكر الايراني، وقطع صلاته بالدول العربية الشقيقة وعزل نفسه اوروبيا ودوليا، ويكاد يغامر بوحدته الداخلية وتعدديته. اكتشف ان صاحب القرار هو "حزب الله" الذي "يهيمن على الحكومة وعلى سياسة البلد"، ويدخل لبنان في صراعات خارجية، ويتورط بحروب خارج الحدود بقرار غير لبناني...
لذلك، رأى سيد بكركي ان الحياد هو الخيار السليم الذي يعيد الى لبنان عافيته وحيويته وحريته وانتظامه العام عبر استعادة قراره الذي يصون عبره حقوق جميع اللبنانيين. وقد أوضح بجرأة كيفية الوصول الى الحياد عندما طالب ب"تحرير الشرعية والقرار الحر" غامزا بذلك من قناة رئيس الجمهورية، المؤتمن على الدستور وعلى السيادة والشرعية والمؤسسات، وعلى توقيع المعاهدات واقامة العلاقات مع الدول، والذي يدعي امتلاكه لعناصر القوة واستعادته لحقوق المسيحيين. ولكن تبين انه لا يمارس اي شيء من صلاحياته هذه، وليس هو صاحب القرار، لا بل يدافع عن كونه رهينة الحزب ومدين له بوصوله الى بعبدا، ويتمسك بالحزب وبسلاحه غير الشرعي الذي يتناقض مع شرعية عون نفسه كونه بحسب الدستور القائد الاعلى للقوات الشرعية المسلحة. ومن يملك القرار العسكري والأمني فهو يمسك حتما بالقرار السياسي، ومؤخرا شاهدنا كيف يعمل "حزب الله" على السيطرة على الحكومة وقرارها الاقتصادي والمالي ومفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي. وفضيحة الفضائح ان حسن نصرالله يتمسك الآن بحسان دياب الفاشل والمدعي لحاجته للتلطي بالحكومة من نار العقوبات، ولأن لا بديل لهذه الحكومة في الوقت الحاضر. هذا يعني ان لبنان اليوم يسلك سياسة الانحياز، او الاصح الانصياع والتبعية لمن يمسك بالسلطة ويوزع الكراسي والمغانم على صغار النفوس والمتلهفين والطارئين على السياسة والشأن العام. فهذا جبران باسيل يتلهف للعودة الى الحكومة ويسعى لاسقاط الحالية باي ثمن، والعودة تتطلب انحيازا واضحا لخيارات "حزب الله" و"الفريق الممانع". غير ان الادراة الاميركية تقف له بالمرصاد وتسلط عليه سيف العقوبات التي ستطيح حتما بطموحه الرئاسي. وهو يحاول اللحاق الآن بزيارته الى البطريرك في الديمان وتأييده لخيار الحياد المشروط بالاجماع رغم رفض عمه الرئيس!
الحياد اذا هو عكس الانحياز، لا بل نقيضه. انحياز عون كما هو حاصل يساوي فقدان الدولة للسيادة وللشرعية وللقرار الحر بحكم سيطرة "حزب الله" على السلطة. وهذا الانحياز الى خيارات وسياسات ومحاور اقليمية يسيء الى لبنان وجوهر معناه، وتركيبته وصيغته، وتنوعه السياسي والثقافي ومكوناته الطائفية. كما انه يسيء الى دوره العربي الجامع والى ابتعاده عن سياسة المحاور، فهو كان دوما مع ما يجمع عليه العرب، ويبتعد عن صراعاتهم او ما يفرق بينهم، على ما كان يردد احد اهم وزراء خارجيته ودبلوماسييه فيليب تقلا. وهذا الموقع والدور كان تدركه تماما الحكومات العربية، ففي خلال حرب حزيران 1967 ضد اسرائيل اعتبرت دول الطوق لبنان دولة مساندة، وليس دولة مواجهة، فلم يشارك في القتال في الخطوط الأمامية.
فعن ماذا يتكلم الممانعون والشتامون، واي تهم يسوقون؟ في اول تصريح له ومطالبته ب"الحياد االايجابي" اكد الراعي على التزام لبنان بالقضية الفلسطينية واستثنى المواجهة مع اسرائيل من فكرة الحياد. ان ادعاءهم الالتزام بالقضية الفلسطينية هو ما يفعلونه اليوم ومنذ عقود بالعبث بفلسطين، وبالتفرقة بين السلطة الفلسطينية وفصائلها وقياداتها، وبتخريب الاستقرار والعبث بأمن الدول العربية باسم فلسطين، وبزرع الميليشيات والاذرع المسلحة في معظم الدول العربية، واستعمال هذه الدول وشعوبها دروعا بشرية في المواجهة مع الولايات المتحدة... وهل ان الشعب الفلسطيني كلفهم للقيام بما يقومون باسمه؟
ثم يطالبون اليوم بالاجماع فيما يخص خيار الحياد، فهل ان ما يقومون به وما يجرون لبنان اليه من تورط في القتال دفاعا عن نظام قاتل سفاح في سوريا، وعن تورط في تخريب العراق او في اليمن، او حتى في عمليات هنا وهناك، او حتى ما يقررونه في لبنان نفسه هو نتاج اجماع لبناني؟!
كفى مزايدة وابتزازا للبنانيين واستخفافا بعقولهم!