من يراهن على قدر من السياسة لدى حزب الله، فلن يجد إلّا القليل. مهارته الأصليّة هي في القتال لا في بناء استقرار. الهدوء الذي يصنعه هو هُدُنات متقطّعة ومعلّقة على حروب آتية. هذا ما تؤكّده إطلالة أمينه العام الأخيرة لمناسبة "يوم القدس العالمي". فخطابه أظهر ميلاً فاقعاً إلى تأكيد أنّ قاسم سليماني لم يمُت، وحزبه صار بديلاً عنه، وأنّه يقود "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" و"محور الممانعة".
عودٌ على بدء
إعلان نصر الله "الالتزام بالقضية الفلسطينية والقدس" والدعوة إلى "نصرة الضفّة الغربية" و"مدّها بالسلاح والمال" يعيد الحزب إلى طوره الأول يوم كان يهتف "زحفاً زحفاً نحو القدس". وفضلاً عن أنّه يُنيب نفسه عن الفلسطينيين والعرب، فهو يجاهر بأنّ المهمّة في غزّة أُنجزت وأنّ الآتي يتركّز على الضفّة الغربية.
قاسم سليماني الذي انتهى إلى مصير وشى بضعف أمني وعسكري فادح، جاء الأمين العام للحزب ليعلن أنّه هو البديل عنه، من فلسطين المحتلّة حتى اليمن. فالرجل أسقط ما كان اسمه الجمهورية اللبنانية وأعلنها ميداناً للقتال. حدّد طبيعة وكيفية إدارة الصراع الفلسطيني. أناب نفسه عن سوريا "مُتبرّعاً" نيابةً عن قيادتها بالكشف عن "تبدّل" استراتيجي في المواجهة مع تل أبيب. فاضت أريحيّته بالحديث عن استعادة العراق "بعضاً من التوازن". وإذ سأل الله نصراً وعمراً مديداً لعبد الملك الحوثي، فقد رسم له خريطة الطريق وأعاد تذكيره بـ"مأثرة الحرب" التي أصلاها للسعودية التي كان أمنها واستقرارها نهباً لميليشيات أنصار الله.
الحزب دور وليس وظيفة
خرج الأمين العام للحزب على كلّ عوامل الاستقرار ليقول بوضوح شديد إنّ حزبه ما عاد موظّفاً بل صار صاحب دور وازن في إدارة حروب المنطقة. أعلن تهديداته على امتداد الإقليم، وهو يجهر بانتصارات أكيدة من دون عدوان إسرائيلي أكيد.
أعلن أنّ الكيان الصهيوني سيتلقّى عمليّات بعضها على الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وغيرها في سوريا التي لم تتوقّف عن تلقّي الضربة تلو الأخرى من دون أن تحرّك ساكناً. ونبّه من استهداف أيّ مقيم على الأراضي اللبنانية، وحتماً هم من "حماس" أو "الجهاد". كلّ هذا يوحي بميل عميق إلى نزع صفة "الحرب الكلامية" عن الخطاب الأخير، ويقطع بأنّ نصر الله يريد تأكيد ما صار مُعلناً:
- لبنان خارج التفاهم السعودي - الإيراني، وما زال ساحة من ساحات إيران القادرة على لعب أدوار في زعزعة الاستقرار بالمنطقة.
- تنبيه الولايات المتحدة إلى أنّ الأذرع الإيرانية على حالها من الاستعدادات الحربية، وإحالتها إلى التقاعد العسكري لم تحِن بعد، والأولوية لتوقيع الاتفاق النووي، والإقرار بدور إيران الإقليمي في المنطقة.
- تحرير إيران من صفة الإرهاب التي لازمتها والتصقت بها منذ ثورة الخميني ونظريّته عن "تصدير الثورة". فجمهورية الخامنئي تحتاج إلى "صفة الدولة" وهي تتّجه إلى اتّفاقاتها الدولية لإعادة بناء شيء من اقتصادها. وهذه الحاجة تستلزم بتراً صوريّاً وفي الشكل لعلاقة حرسها الثوري بالعنف المستطير في المنطقة مع بقاء القدرة على الاستمرار في الاستثمار بالأذرع. فكان الإعلان عن بقاء القديم على قدمه. لكن مع حلول الأمين العام للحزب قائداً على هذه السلسلة الميليشياوية أصيلاً.
- تأكيد الصلاحيّة القتالية له ولحزبه للحلول بديلاً عربياً لا فارسياً عن الوجود المباشر للحرس الثوري، والقدرة على القيام بمهامّه تدريباً وقتالاً وإدارةً للمعارك المقبلة بوصفه الذراع الأمين لجمهورية الملالي التي تخلو من أيّ معنى من معاني الدولة في زعزعة استقرار المنطقة.
- قبل هذا وبعده، رمى نصرالله إلى استثارة المسلمين والمسيحيين بقضية القدس، فضلاً عن سعيه الحثيث إلى استعادة حضوره وما يمثّل مذهبياً عند السُّنّة بوصفهم مقاتلي غزّة والضفّة والقدس، ونصّب نفسه "المدد" لهم.
خارج السياسة وسياقاتها
كلّ ما قاله الأمين العام للحزب جاء من خارج السياسة. حلّ على اللبنانيين بعيداً من سياق ما يحصل من تحوّلات في المنطقة عنوانها "تصفير المشاكل":
- العرب يريدون استعادة سوريا من إيران إلى "الحضن العربي".
- مصر وتركيا طوتا الماضي، وأنقرة ودمشق على الطريق.
- إيران والسعودية "تفاهمتا".
- الأسد زار الإمارات والعرب في طريقهم إلى دمشق.
- العراق استعاد بعضاً من عروبته.
- الشرعية اليمنية و"الحوثيون" شرعا بالتفاوض.
القلق الوحيد هو من تصديع هذا كلّه ليس من قبل إيران الملجومة بـ"اتفاق الصين"، بل من طريق وكيلها اللبناني. وهذا ما يشير إليه تصدّي الأمين العام للحزب لكلّ مهامّ الحرس الثوري.
تكرار الماضي
لا يني الأمين العام للحزب يكرّر الماضي لتاريخ الصراع مع إسرائيل بوقائع أسوأ. لا يأبه لكون هذا التكرار يأتي في ظلّ انهيار مهول ومع خصومة عميقة في الداخل. لا يأبه أيضاً لحجم العداء الذي صار يفصلنا عن العالم.
مسلسل الخيبات معه ومع من يمثّل داخلياً وخارجياً بدأ من "شكراً سوريا" في 8 آذار 2005، ووصل إلى تهديده الأخير بحرب مع إسرائيل لا تبقي ولا تذر إن هي استهدفت أيّ شخصية لبنانية أو غير لبنانية. في ما يخصّ استهداف "لبنانيين" قد يجد من يبرّر له الردّ بحجج متهافتة ومتهالكة. لكن ما مبرّر وجود "غير لبنانيين"؟ وما هو مبرّر جمع حركتَي "الجهاد" و "حماس" في الضاحية الجنوبية لبيروت وإطلاق شعار "وحدة الساحات" وإعادة لبنان إلى مرتبة "دولة مواجهة"؟ ولماذا فتح الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلّة الذي ينعش في الذاكرة ماضي "فتح لاند"؟
أوهام الانتصارات
حسناً، لنصدّق أنّ الحزب منتصر على طول الخطّ، وأنّ الولايات المتحدة مهزومة وتتراجع في المنطقة. وهو انتصار يبعث على السؤال عن جدوى الهلع من التهديدات الأميركية والقبول بالترسيم البحري مع فلسطين المُحتلّة بضمانة "الشيطان الأكبر"، الذي أخذت إسرائيل من خلاله ما أرادت وبرعاية شبه عالمية، من دون أن يستطيع الحزب أن يُحَصِّل أيّ بديل للبنان، حتى إنّه لم ينجح في المقايضة على رفع ما يسمّيه "الحصار الأميركي"، فكان أن خسر لبنان مئات الكيلومترات البحرية، وبدأت إسرائيل باستخراج النفط وبيعه قبالة شواطىء لبنان. وهذا إن دلّ على شيء فعلى نقص سياسي فادح عند الحزب.
أوهام الانتصارات تسبح بالدم. في عملية "تصفية الحساب" عام 1993 انتصرنا بـ"وقف إطلاق النار على المدنيين" بعد خسائر فادحة في البشر والحجر عندنا. في هجوم "عناقيد الغضب" انتصرنا بـ"مجزرة قانا" وبحقّ القصف المتبادل على العسكريين دون المدنيين. جاء 25 أيار من سنة 2000 وسمّي "عيد التحرير والمقاومة" وأُعلن أنّنا انتصرنا على إسرائيل. عام 2006 خطف الحزب جنديَّين إسرائيليَّين من خلف الخطّ الأزرق الذي اعترف به. وكان ما كان وانتهت المعركة بإعلان "انتصار" ناجز من طبيعة إلهية، لكن بخسائر كارثية.
حسناً فلنصدّق هذه الانتصارات. لكن ألا يستدعي كلّ هذا بحثاً في جدوى هذه "الانتصارات" ما دمنا عرضة دائماً وباستمرار للعدوان، ولدفع أكلاف غير محدودة في السياسة والاقتصاد؟
لنفترض أنّ الأرواح ليست على قدر من الأهميّة. ألا يُفترض بالانتصارات أن تلجم المهزوم؟ وفي حالتنا هي إسرائيل، والغرب الذي فشل من غزّة إلى اليمن مروراً بلبنان، دمشق، وبغداد.
حجم هذه الانتصارات المتراكمة المشكوك في طبيعتها ومؤدّاها السياسي كلّلت انتصاراً غير مفهوم. إذا كنّا منتصرين على طول الخط، فما الذي يبرّر للأمين العام للحزب أن يطلق النفير؟
مهارته الحربية بعيداً من السياسة والاقتصاد تعني أنّه لا يريد أن يعرف الحياة إلا بوصفها الحرب. أمّا معايير العيش بـ"كرامة" من خلال مستويات الدخل المرتفعة وجودة التعليم والطبابة والاقتصاد المنتج فلا معنى لها. وهذا كلّه شرطه تسيُّد الدول.
*عن صفحة أساس-ميديا