تقلّبات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله دائماً لها مبرّرات أيديولوجية مدارها ومدادها تاريخ أسطوري وعالم في مخيّلته أسطوري أيضاً. عندما يتقلّب بين حلفائه ومعهم يفعل بـ "رصيد الخصوصيّة" الذي لا ينضب على الطريقة اللبنانية.
سند السيّد المذهبيّ
أسباب السيّد نصر الله لها دائماً جذر لبنانيٌّ شكليّ، لكنّ مضمونها خارجي، وتحديداً أميركي ـ إيراني. استطاع الرجل أن ينتقل من العداء المطلق لإسرائيل إلى لحظة يرعى فيها ويُشرف على "الترسيم البحري"، من دون إقفال أبواب الصراع. فهذا في حساباته ينبغي له البقاء لقرع أبواب الحرب أو المهادنة، تبعاً لمصالح من يرتبط معه عضويّاً وولائيّاً.
تقلّبات السيّد نصر الله من هنا إلى هناك كانت أوضح صورها في ذهابه إلى سوريا فالعراق ثمّ اليمن. فجأة تغيّرت أولويّاته المطلقة. وما كان بحاجة إلى عناء كبير لتبرير ما فعله. والآن عاد إلى مربّع استعصاء "الرئاسة الأولى"، مُعلّباً الشروط للداخل استحياءً وللخارج فعلاً. من الطبيعي أن يفعل ذلك في لبنان الذي يذوي تحت ركام انهياراته. ومن الطبيعي أكثر أنّ للرجل مدداً وسنداً إقليمياً ـ دينياً ـ مذهبياً.
17تشرين طعنة
هكذا دشّن السيد نصر الله إطلالته المتلفزة الأخيرة بتوجّهين: الأول كان من طبيعة شكليّة للّبنانيين. الآخر شديد الصلة بالخارج والعلاقة به.
في ما يتّصل بشؤون اللبنانيين ذهب نصرالله إلى وضع "17 تشرين" في مصافّ العداوة التي كادت أن تطعن "المقاومة" في ظهرها. هذا الكلام كان يختلف جذرياً عمّا قاله في البدايات عن "أوجاع" الناس الصادقة، قبل أن يرتدّ على الداخل ويطلق لاءاته الثلاث: لا لإسقاط رئيس الجمهورية. لا إسقاط النظام والمنظومة في آن. ثمّ لا لسقوط الحكومة. الأخيرة خذله فيها الرئيس سعد الحريري الذي قفز من المركب مخاطباً الشارع، من دون أن يفلح لا في هذه ولا في تلك.
لكنّ كلام نصرالله كلّه شكّل مدخلاً لمخاطبة الخارج، وتحديداً الولايات المتحدة.
تعبئة ضدّ المؤامرة
محاكاة نصرالله للخارج أملت عليه ربط حراك تشرين لبنان عام 2019 بثورة مهسا أميني في إيران 2022، لتحضر في المشهد السياسي المؤامرة من جديد. طبعاً حديث المؤامرة يستدعي تعبئةً وتخويناً واستهلالاً لاشتباك قد يقع أو لا ينشب. لكنّ بدايات هذه اللغة استهلال لاستعداد من طبيعة "عسكرية وأمنيّة" ضدّ ما هو آتٍ ولا يتوافق مع رؤية إيران وممثلها حزب الله.
ما يستدعي التوقّف عنده في الخطاب أنّ السيد نصر الله ما عاد ضامناً لشيء، وهو الذي كان يرفع عقيرته آناء الليل وأطراف النهار بأنّه ضمانة لبنان كلّه، وضمانة الاقتصاد القويّ بصناعة اتّفاق مع العدوّ الإسرائيلي ينقل لبنان في الشكل إلى مصافّ دول النفط والغاز، وأنّه هو الضامن لجيوبوليتيك لبنان، والمقرّر فيه وعليه. وقبل هذا وذاك، ومن ضمن "منطق الضمانات" التي يوفّرها، ذهب إلى سوريا وقاتل فيها من القصَيْر حتى الحدود العراقية "درءاً لخطر أكيد" على لبنان وأهله، حسبما قال وبرّر، علماً أنّنا البلد الوحيد الذي لم يُعرف عنه في تاريخه كلّه أنّه منطلق غزوات وأحلام إمبراطورية. كان نصرالله يصدح الوقت كلّه بأنّه هو ضمانة كلّ شيء بلا استثناء، من خلال صناعته لـ "لبنان قويّ" لم نعرفه يوماً. لكنّه فاجأنا بأنّه صار طالب ضمانات ليست بمتناول اللبنانيين الذين يريدون النجاة من أهوال هذا الحزب.
ضامن يطلب ضمانات
هذا كلّه سقط في خطابه الأخير. هو من أسقطه قبل غيره. فما هو معنى هذه الضمانات كلّها وهو يطلب ضمانة من "رئيس لا يطعن المقاومة". كيف لضامن أن يطلب ضمانات؟ دعك من "مطاطيّة الاستراتيجية الدفاعية". فقد ذهب الرجل حدّ طلب ضمانة للسلاح، وهو ما يعني أوّلاً أنّ السلاح باقٍ، وأنّ الكلام عن "الاستراتيجية الدفاعية" أضغاث أحلام ما لم تتفاوض إيران مع الولايات المتحدة الأميركية. بهذا المعنى كان يدفع عن إيران مسار الضغوط عليها. أكثر من ذلك كان يطلب من الولايات المتحدة "المُتّهمة" بتأجيج ثورة الحرّيات في إيران، أن تحادث إيران. كان الخطاب على طريقة محادثة الكنّة لتفهم الجارة.
القلق الكبير الذي عبّر عنه السيد نصر الله لا يُقرأ فقط من اللحظة الراهنة وارتفاع عناصر الاحتدام فيها، من اليمين المتطرّف في إسرائيل وصولاً إلى تبدّلات في الأحجام والأوزان في روسيا وأوكرانيا. عليه قد يكون الصواب السياسي في معاينة ما يريده الحزب، هو العودة إلى لحظة انتخاب إميل لحود رئيساً للجمهورية وما وفّره الأخير من ضمانات لهذا الحزب. وكذلك فعل لاحقاً ميشال عون. حتى الساعة لا يبدو حزب الله ساعياً إلى إسقاط النظام السياسي. لا بل على العكس: قد يتمسّك به لأنّه يوفّر له ما تحوزه الطوائف الأخرى الأكثر عدداً وحضوراً في هذا النظام. حتى طائفيّة النظام تُعتبر "فضائل" يتمسّك بها الحزب لتعطيه ما أعطت لغيره من الطوائف في السلطة التنفيذية. ارتفاع منسوب القلق عند هذه المنظمة لا يضبطه سوى أمان ينشده من الناخب الخارجي، وهو بالتعريف الأميركي.
بين أميركا والله
التلويح بسليمان فرنجية وجبران باسيل هو من أدوات التصعيد إذا لم يتجاوب الخارج في مفاوضة إيران، ثمّ إعطاء الضمان لحزبها اللبناني. إنّ اتّكال "حزب الله" على الأميركيين من بعد توكّله على الله أن يضعوا لبنان في سلّم أولويّاتهم ووفقاً لشروط هذا الحزب، هو توكُّل في غير محلّه. واشنطن لا تحنو على أحد. كميل شمعون قال عنها إنّها "تعطيك المظلّة وتأخذها منك وقت هطول المطر". الولايات المتحدة في لبنان اليوم غير فرنسا "الأمّ الحنون" التي كانت في زمن صار غابراً عن غابر.
تصعيد السيد نصرالله مواقفه من الاستحقاق الرئاسي، انطلاقاً من "دفتر شروط" يتعلّق بالمرشّح المقبول وغير المقبول، ثمّ تأكيد رئيس "كتلة الوفاء" محمد رعد أنّه لن يكون هناك رئيس للجمهورية إلا الذي يريده حزبه، هو تصعيد لطلب التفاوض. ذلك أنّ الحزب لطالما أراد التشابك وليس الاشتباك مع الولايات المتحدة، ودائماً على قاعدة حصّة كلّ منهما في إدارة لبنان. الخطاب الأخير للسيد نصر الله لم يكن دفعاً إيجابياً للأمور إلى الأمام. أعلن استمرار الشغور، وأنّ السياسة في لبنان مصدرها الخارج إلى الداخل وليس العكس.
بهذا المعنى فإنّ معاينة "حزب الله" ملفّ الرئاسة شديدة الصلة بمسار التطوّرات في المنطقة ومن "منظار إيراني". هذا يتصاعد مع كلّ حراك دولي معطوفاً على آخر داخلي متواضع في أزمة استحقاق الرئاسة الأولى. الوضوح السياسي هذا ظهّرهُ النائب محمد رعد الذي شدّد بفجاجة على أنّ الحزب عازم على إيصال "من يريد" إلى قصر بعبدا. هذه لم تكن رسالة للداخل بقدر ما كانت رسالة للخارج. من يعتقد غير ذلك، يستسهل اللحظة السياسية الحاكمة والمتحكّمة في لبنان.
حزب الله الضعيف الآن بطلبه "ضمانات" يُخشى منه وليس عليه. فلطالما كان المبادر إلى الحروب الداخلية والخارجية. و"حزب الله" لا يريد الالتفات إلى أنّه صار يشبه مَن سبقوه من قوى وأرجحيّات في الجمهوريّتين الأولى والثانية. فمتى يصبح كلّ هذا من الماضي، كما صار لبنان؟