يُفاخر التنظيم الأمني ـ العسكري الذي يقوده السيّد حسن نصرالله بأنّه "حزب فائض القوّة". وهي صفة لم ينفِها، بل على العكس يستمسك بها في ترهيب خصومه بالداخل ليفاوض الخارج. هذا زمنٌ يبدو اليوم وكأنّه إلى أفول. وفي البرهنة على ذلك إحجامه عن تبنّي مرشّح لرئاسة الجمهورية.
عوّز وتوسل الحزب
لا طعن في صحّة ميل هذا التنظيم إلى الوزير سليمان فرنجية، لكنّه ميل مُعلّق على رغبة في التفاوض. رفع السقف السياسي ـ الانتخابي به، لكنّه ما لبث أن راح ينشُد مفاوضات تعطيه ما يطمئنه هو. الصورة الأوضح عن عوّزه وتوسّله طرفاً يفاوضه كانت في تسريبه خبراً يشبه "أكل المستشفيات" الذي لا طعم له ولا لون ولا رائحة: "وفد من حزب الكتائب في بئر العبد عند حزب الله". هذا هو المعلَن. لكنّ ما هو غير مُعلَن فتح قنوات عديدة بحثاً عن توافق ربّما يكون على قائد الجيش العماد جوزف عون، قطع الشكَّ باليقين بإمكان حصوله إعلانُ النائب علي عمّار في هذا السياق.
يقف حزب الله الآن ومعه اللبنانيون أمام استعصاء انتخاب رئيس للجمهورية، في وقت يدير العالم ظهره للبلد كلّه. وهو ما يرقى إلى المصيبة التي حلّت منذ إحلال الجنرال ميشال عون رئيساً في بعبدا. كانت النتيجة وضع البلد في الحاضنة الإيرانية وعزله عن محيطه وعمقه العربيَّين، إضافة إلى رفض تنفيذ القرارات الدولية 1559، 1680 و1701، فكان أن انهارت الجمهورية كلّها وصارت أثراً بعد عين.
تذمر شيعي وسُني
قوّة الحزب الفائضة على اللبنانيين وعلى الإقليم كان يستمدّها من مدد وعدد وأيديولوجية في إيران تُعزّزها جماعة ديمغرافية تنتصر لشيعية الحزب لا لأيديولوجيّته التي راحت تتبدّل. الكتلة الديمغرافية هذه راحت تضمر. صار عندها أسئلة من طبيعة لبنانية عامّة: كيف نستمرّ في ظلّ انهيار مروّع أتى على كلّ شيء ولم يقوَ أحدٌ على حمايتنا؟
في زمن ما كان التنظيم الأمني ـ العسكري يرفع أولويّة العداء المطلق لإسرائيل، قبل أن يتبدّل ويُصلي الإقليم بتشكيله السُنّيّ الغالب حرباً لا هوادة فيها بدعوى محاربة "التطرّف". لاقى هذا التحوُّل ترحيباً تحوّل إلى تعاون مع الأميركيين منذ هجمات 11 أيلول. أخيراً انقلبت أولويّاته المطلقة نحو "ترسيم بحري" يضمن للدولة العبرية استثماراتها الاقتصادية.
سيولة مواقف الحزب دائماً ما تجد سنداً يطلقه أمينه العامّ. بين المحطّات الثلاث الآنفة، استنفد الحزب رصيده منذ أن كاسر لبنان واللبنانيين ومعهم العالم للمجيء بالجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية. انتهت ولاية الأخير، فيما يستمرّ الاستنفار على جبهتين: الأولى انتخاب رئيس، والثانية مرتبطة بالأولى وتتمثّل بتشكيل حكومة. كان الحزب يريد مقايضة مع السعودية: رئيس الجمهورية مقابل رئيس الحكومة. كان الردّ العاجل من الرياض أن لا هذا ولا ذاك، وافعلوا ما تشاؤون، فهذا تدبير لبناني بحت وعلى اللبنانيين حسم وجهته. ذلك أنّ لبنان ذهب بعيداً في الانتماء إلى محور يهدّد الأمن القومي العربي برمّته، من غزّة إلى اليمن مروراً بسوريا والعراق. كانت ذروة التصعيد في ما أعلنه السيد علي خامنئي قبل أيام من أنّ هذه الدول هي ساحات "لإسقاط" مشروع الولايات المتحدة الأميركية. وهو بالمناسبة مشروع جَهْل اللبنانيين به كجهل الأمّي بالقراءة والكتابة. جهلٌ مطبِق.
يحصل هذا كلّه لاستدعاء اهتمام العرب وفي مقدَّمهم السعودية، علماً أنّ موقفها واضح. من لم يفهمه فليعُد إلى البيان الثلاثي الأميركي ـ السعودي ـ الفرنسي الذي صدر على هامش اجتماع وزراء الخارجية في الأمم المتحدة. البيان سياسيّ والردّ عليه يكون بالسياسة. أصل السؤال الموجّه إلى لبنان الفاقد القدرة على كلّ شيء: كيف ترون الحلّ؟ الكارثيّ أن الردّ يأتي تقنيّاً يفيض بكلام عن إصلاحات حتى الآن لا نيّة ولا قدرة على الالتزام بها. حتى الوزير فرنجية في "ظهوراته" الإعلامية لم يقدّم أجوبة من طبيعة الأسئلة. لا تنقص الرجل مهارات سياسية. اعتقاده بـ"حظوظ" للتسوية ليس على جادّة الصواب السياسي، عند العالم الغارق في أزمات تهدّد السلم والاستقرار الدوليَّين.
أهل الأمة والدولة
المطلوب هو رئيس جمهورية يلتزم اتفاق الطائف نصّاً وروحاً غير مرتبط بسياسة المحاور وقادر على تطبيق قرارات الشرعية الدولية. أمّا رئيس الحكومة فينبغي أن يعكس المعنى والمبنى لِما يُمثّل ومَن يمثّل، وهم أهل الأمّة والدولة. حتماً التعمية بأنّ المعركة على نوّاف سلام ليس لها أساس. فرئيس الحكومة ينبغي أن يكون سُنّياً. ولم يكن من ضرورة لأن يدرأ الأخير الهجوم عليه بنصّ في "جريدة النهار" يعيد فيه تنسيب نفسه إلى يسار تداعى على أزمة بنيوية. الأكيد أنّ العرب لا يبحثون لا عن يسار ولا عن يمين. الهمّ السياسي هو في إعادة التوازن للبلد ومكوّناته تحت سقف الدستور حصراً وفي ظلال سلاح الشرعية. لو وُفّق نوّاف سلام إلى دخول مسجد محمد الأمين كان أجدى له. وضع البلد العسير راهناً ليس في علمانية الدولة من عدمها.
المشهد العامّ للاستعصاء السياسي يصحبه سؤال: ما هو المخرج في ظلّ إدارة العالم والعرب ظهورهم لبازارات "حزب الله" الذي يعرف باليقين أنّ المطلوب منه هو أن يُطمئن المجتمع الدولي إلى الوضع في هذه الرقعة الجغرافيّة وما يصدر منها وعنها.
التصدع المسيحي
ما نحن بصدده لا يتحمّل الحزب وحده المسؤولية عنه. هناك التشظّي المسيحي العامّ الذي لو توافق على مرشّح، لَما كان لهذا التنظيم أن يسقطه أو يحول دون وصوله إلى سدّة الرئاسة. وكون هذا الأمر عسيراً الآن، فإنّ الحزب ولّى وجهه نحو قائد الجيش العماد جوزف عون، وقد عبّر عن ذلك فوق الطاولة وتحتها. لا يفعل ذلك عن قناعة، بل عن وعي لِكون أحوال "العونيّة السياسية" في الساحة المسيحية تتصدّع أكثر فأكثر، وأنّ الرابح هو خصمه رئيس القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع. مؤشّراته يجمعها من نتائج الانتخابات الجامعية على مساحة لبنان. ومن الواقع الأهلي في البيئة المسيحية التي صارت بحاجة إلى حماية من دولة وليس من سلاح حزب أو فئة. والسؤال الأكثر إلحاحاً على الحزب الآن هو: من يعيد البيئة المسيحية إذا صار جزء وازن منها في معراب؟
في وضعيّة كهذه يصبح قائد الجيش هو الأوفر حظّاً لكونه قادراً على الحصول على "الشرعية المسيحية" من رأس الكنيسة ومن حزب القوات الذي لم يمانع تأييده. أضف إلى ذلك أنّه من المؤسّسة العسكرية التي بنت "العونية السياسية" حالتها على شرعيّتها وما تشكّله في الوعي المسيحي الجمعي من ضمانة ثابتة.
الراعي والفاتيكان
في وضعية كهذه سياسياً واقتصادياً، ما عاد لـ"حزب الله" القدرة على أن يلاعب المشروعية الدولية وفي متنها العربية. والانسداد السياسي الذي صار لبنان أمامه دفع بالبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى إجراء مشاورات عميقة تتعلّق بحظّ جوزف عون في الوصول إلى سدّة الرئاسة الأولى. ولهذا أُعيدت القنوات بين بكركي وبئر العبد، وكان شرط الكنيسة أنّه ما من مانع "ما دام الحزب يطرح التوافق". هذه الوقائع هي أبرز مرافقي البطريرك الراعي إلى الفاتيكان للمشاركة في الاستعدادات للسينودس الذي سينعقد في عام 2023 تحت عنوان "كنيسة سينودسيّة: شركة ومشاركة ورسالة".
القراءة حتى الساعة: المسارات الرئاسية كلّها مسدودة وعقيمة. اللبنانيون أمام أحد أمرين:
- الأوّل هو استدامة الفراغ مع ما فيه من مخاطر في كلّ شيء وعلى كلّ شيء بما فيه السلم الأهلي. والأخير يجتنبه الجميع ويخاف عليه الجميع. المغامرات يُعرف أين تبدأ، لكن لا أحد يعرف كيف تنتهي. وللّبنانيين سِيَر مديدة في ذلك.
ـ الثاني هو الذهاب إلى التوافق على انتخاب جوزف عون.
حسناً، الأرجح أنّ الخيار الثاني ترتفع مستويات نجاحه، لكن ما هي الآليّة لذلك؟
من يملك يعطِ، ومن لا يحُز شيئاً فماذا يفعل؟ هذا سؤال إلى قادة السُنّة.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا