الركون اللبناني العامّ يصحبه هذرٌ سياسيّ على الشغور الرئاسي يؤكّد المؤكّد، وهو أنّ هذا البلد لم يكن يوماً مستقلّاً بقدر ما كان صاحب دور تحدّده أوزان القوى في الإقليم. ومن دون التصدّي لعلاقة كهذه، تكاملاً وتبايناً، ستبقى المعضلة معضلة مع استعصاء فهم ما الذي يجعل من لبنان بلداً مستقلّاً من عدمه.
عدم تفكيك هذا الواقع يُبقي كلّ الكلام عمّا صاره البلد انفعاليّاً وعاطفيّاً، إضافة إلى كونه فاقداً لأيّ تصوُّر، حتى لو نظريّاً، لأيّ مستقبل.
الحزب ومعه الأقربون والأبعدون
ليس الحزب وحده من ربط البلد بالخارج. لقد سبقه اليمين واليسار ومعهما العروبة والانعزالية. لكنّ الحزب وحده نجح في إحكام ربط لبنان ربطاً وثيقاً بالإقليم والدول.
نجاحه في إحكام ربط البلد إلى هذا الحدّ ألغى كلّ داخل ممكن. ما فعله كان تكراراً ممضّاً لما بدأناه منذ "محور بغداد" في الخمسينيات من القرن الماضي وصولاً إلى الاحتلال السياسي الإيراني وما بينهما من تسيّد للبنادق الفلسطينية والإسرائيلية والسورية، وإمعان الجميع في تمزيق نسيج البلد.
صحيح أنّ أحوال الحزب جعلته حتى الآن أقوى من البلد كلّه والأقوى فيه. لكنّ الأصحّ أنّه لم ينجح في أن يصبح مقرّراً حاسماً وحاكماً للمسارات السياسية.
ما نجح فيه مع موئله الإيراني هو إعادة منفردة لصياغة بطاقة تعريف للبلد بأنّه ميدان مفتوح للصراعات الحُرّة، بمعزل عن كلّ نتائج صناديق الاقتراع والحيوات السياسية التي لطالما وسمت يوميّاته وحقباته.
صعود الحزب إلى هذه المكانة لا يُكسبه فرادة سياسية أو عسكرية وأمنيّة، بل هو صعود مصحوب بحضور أميركي وفرنسي وسعودي.
فما هي "الأدوار" التي تتنازع "لبناننا"؟
- إيران بحسب مفردات مسؤوليّاتها ترى إلى البلد ميدان قتال وخطّ دفاع أوّل وأخير عنها. ولِمن نسي له أن يتذكّر مفاعيل حرب 2006 ونتائجها في دفع دول القرار إلى محاورة طهران.
- السعودية لا يني سفيرها في بيروت يكرّر أن لا علاقة لبلاده بإعادة تعريف البلد وأنّها مهمّة لبنانية حصرية مع وعي دقيق لأهمية "اللبنانية" الصافية وصلتها بالمنطقة. وهي تقول ما تقوله بعدما تسبّبت إدارات لبنانية سيّئة ومتعاقبة، من حلفائها، بإخلاء جغرافيا البلد السياسية لصالح إيران.
- فرنسا تتطلّع إلى لبنان كفرصة استثمارية في السياسة والاقتصاد. في السياسة يشكّل لبنان تعويضاً مثالياً لكلّ ما حصل في دول حوض المتوسط منذ عام 2011 حتى الساعة. أمّا اقتصادياً فهو فرصة في كلّ شيء بدءاً من استخراج الطاقات النفطية والغازية وصولاً إلى إعادة البناء ومروراً بهيكلة عشرات القطاعات.
- مع الولايات المتحدة الأميركية يبدو الأوان أكثر إلحاحاً الآن لسؤالها عن انكفائها نحو "القلعة – السفارة في عوكر" مقابل اطمئنان غير واضح المصادر إلى أنّ ضماناتها في لبنان ترتكز على أساسين: الجيش، والمصرف المركزي. وبعض المؤشّرات قد تكون كافية، وجوهرها أنّ واشنطن سكتت عن انهيار كلّ شيء في البلد إلّا الجيش.
لوحة الطفل الباكي
يعكس هذا المشهد اللبناني العامّ على وجه من الوجوه "لوحة الطفل الباكي" التي رسمها الفنّان الإيطالي جيوفاني براغولين وانتشرت منذ عام 1950 حتى صار كُثُر يعتبرونها لوحة ملعونة. وهذه حال لبنان الآن، فقد ازداد ارتباطاً بالمنطقة ومساراتها، أي مع وضع خريطة المنطقة على طاولة المفاوضات، حيث تُرسم خرائط وأدوار جديدة، فيما لوحة تداخلاته لا تبعث إلا على خوفٍ مُقيمٍ جرّاء كارثية ارتباطه على نحو خاصّ بإيران وأوضاعها.
الأسوأ في هذه اللوحة السياسية هو دائرة الفراغ التي وقع فيها البلد. وإذا كانت الطبيعة تكره الفراغ، فإنّ الخوف من أن تبادر الرعونة الإيرانية أو الإسرائيلية إلى ملء هذا الفراغ، وهو ما يضيف إلى سوداوية المشهد سواداً آخر.
في ظلّ هيمنة الحزب وتصدّع قوى الاعتراض، فإنّ الأولوية أو الأمل هما اهتمام أكثر جدّية في رؤية الخارج وسياساته العامّة إزاء لبنان، ومن دون أيّة معوّقات شعاراتية داخلية مهما كانت عناوينها أو مضامينها. وحتى إشعار آخر فإنّ الغياب والفراغ اللبنانيَّين سيبقيان مُتسيّدَين.
المعنى والفاعليّة
ليس الحزب وحده من يسخّف الانتخابات الرئاسية وغيرها من الاستحقاقات الديمقراطية. الغالبية السياسية التي كانت تُدعى "14 آذار" قضت بدورها على المعنى والفاعلية السياسية لكلّ انتخابات.
قد يقول قائل، عن حقّ، إنّ الطائفية وأدواتها هم عَطَبَة هي التي أعطبت فاعلية الانتخابات أيّاً كان اسمها: رئاسية أو برلمانية. في هذه المقولة شيء من الصحّة، لكنّها حتماً ليست كلّ الصواب. ذلك أنّ لبنان خاض انتخابات حتى في زمن الاحتلال السوري وبعُدّة شغل طائفية، لكنّها أفضت إلى نتائج معقولة.
الآن، وتحديداً منذ عام 2005، تبدو كلّ انتخابات معدومة المضمون والفاعلية السياسيَّين. الخلاصة هذه يصل إليها المرء من دون عناء وجهد مع تحوُّل الغالبية إلى أقلّية، والعكس صحيح، ومن دون أن نفهم نحن اللبنانيين كيف يحصل هذا.
قد يكون السبب في ذلك هو أنّ الغالبية كانت تجنح نحو الخسارة جنوحاً غريزيّاً تطلّباً لحفظ السلم الأهليّ والسعي في مسالك التنمية. في المقابل، كان الحزب ومشايعوه يملكون قوّة تأجيج الحروب. فحيناً يشنّ حرب 2006، وحيناً آخر يجعل من 7 أيار "يوماً مجيداً"، وحيناً ثالثاً يطيح برئيس حكومة ليأتي بغيره كما فعل عام 2009 2011 مع نجيب ميقاتي، ثمّ أعاد الكرّة مع حسان دياب وأتى بنجيب ميقاتي مجدّداً. لقد كرّس كلّ عناصر قوّته يوم ذهب إلى سوريا لينتشر على مساحة الإقليم وكأنّه يتنزّه في حديقة منزله الخلفيّة.
النهائيّات البائسة
برلمان ما قبل الحرب والبرلمانات التي مُدّد لها 3 مرّات ومعها ما معها من شغور رئاسي، خصوصاً ذاك الذي استطال حتى وصول ميشال عون، تقول إنّ عناصر القوّة والفاعلية السياسية هي خارج السياسة والدستور.
يصبح الأمر أكثر سوءاً مع ترقّب دقيق للقوى السياسية التي ترفع وطيس معركة لا قِبلَ لها فيها إلا من حيث الشكل والسيل الخطابيّ:
1- المعارضة أو القوى السيادية دخلت الانتخابات الرئاسية وهي تتأرجح على مقاعد السياسة، حيناً بمرشّح "ليس للمساومة" هو ميشال معوّض، وحيناً آخر باسم مرشّح مقرون بمفردة سياسية غريبة هي "مرشّح التقاطعات"، مضمونها جهاد أزعور.
2- الحزب يحار كيف يثبت لنا يومياً تحكّمه بالبلد ومساراته السياسية. فهو منتصر بسوريا، ومستشار لا رادّ لكلمته في العراق واليمن، ويستند إلى عدد ومدد إيرانيَّين.
في مثل هذا الحال، فإنّ الخلاصة التي تقترب من الصواب هي انحسار السياسة في البلد، فيما التماسك يتأتّى من خارجٍ هو مَن سيقرّر متى يحلّ علينا. وفي هذا كلّ النهايات البائسة.
لكنّ الأساس أنّ اللبنانيين، و"الخوارج" الكثيرة التي ترافقهم او يتبعون لها أو يحاولون التزلّم لها، مختلفة أيضاً على "دور" لبنان. وربما يكون الحوار أكثر فائدة إذا بدأنا من هنا: ما هو "دور" لبنان في المرحلة المقبلة التي يتّجه إليها قطار 2030 في المنطقة: ساحة الحروب؟ حاوية نفايات السياسات الإقليمية؟ أو مقعد على الدرجة الأولى في قطار الاستثمار والازدهار؟
*عن صفحة أساس-ميديا