منذ انفجرت الأزمة في لبنان، انقسم الرأي العام اللبناني، وحتى الدولي، حول توصيف هذه الأزمة بين فريقين: فريق اعتبرها أزمة سوء إدارة وتدبير وفساد، ولا علاقة لسلاح حزب الله ولا الاحتلال الإيراني بها، وفريق آخر كان يقول إنّها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوضع يد إيران على لبنان، وهو الذي منع أو عزل لبنان عن دوائر القرار الخارجية الإقليمية والدولية.
خيار فرنسا الإيرانيّ
في الشكل والمضمون تميّزت فرنسا بسبب سياستها الخارجية المنفتحة على إيران وتبنّيها وجهة النظر الأولى. وكان تحييد إيران جزءاً من سياسة فرنسا لتكون لاعباً في المنطقة على قاعدة تقريبها بين وجهتَيْ النظر السعودية والإيرانية، وبين إيران والغرب. وهذا دور تعتبره فرنسا أساسيّاً لعودتها إلى خريطة المنطقة.
ذهبت فرنسا أبعد من ذلك. فمن أجل تبرئتها حزب الله من الأزمة اللبنانية، حشدت وسائل إعلامية لبنانية ومجموعات تكوّنت أثناء ثورة 17 تشرين حول هذا الرأي الفرنسي الذي أراد تحييد حزب الله ووضع المسؤولية الكاملة على سوء الإدارة وفساد السلطة اللبنانيَّين وأركانهما، وكأنّ حزب الله ليس ركنهما الأساس.
رئيس مصالح متضاربة؟
أدّى التقارب الإيراني ـ الفرنسي الذي برز أكثر فأكثر بعد تفجير مرفأ بيروت، وزيارة الرئيس إيمانويل ماكرون لبنان، إلى انتزاع فرنسا مجموعة هائلة من العقود الاقتصادية من العراق المحكوم إيرانياً.
فرنسا تعتبر أنّها حقّقت بذلك إنجازاً عبر الضغط الذي مارسته دوليّاً لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها. واليوم تريد أيضاً تحقيق إنجاز آخر: إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، على قاعدة أن يأتي رئيس جمهورية يكون محور تقاطع مصالح إيرانية ـ سعودية ـ فرنسية ـ أميركية.
لا يتناسب هذا الدور الحميد للدولة الفرنسية تناسباً كاملاً مع مصلحة اللبنانيين الذين يعتبرون أنّ الأزمة في لبنان من طبيعة سياسية، ومضمونها أزمة سلاح، وأزمة هيمنة طهران على بيروت.
المصالح ليست بالإقناع
الكلام الذي قاله الرئيس ماكرون عن أنّ فتح باب صندوق النقد الدولي للبنان يؤدّي إلى بداية علاج الوضع الداخلي اللبناني، مشوب بعيب تغييب "الخطأ السياسي". فعزلة لبنان وانكفاؤه عن البنود الأساسية النهائية في اتفاق الطائف: عروبة لبنان، نهائيّة الكيان، والعيش المشترك، هما السبب في بقاء لبنان عارياً من كلّ شيء.
صندوق النقد الدولي يموّله المجتمع الدولي. فهل يمكن ماكرون إقناع الجانب الألماني برؤيته، فيما ألمانيا مشغولة بالحصول على غاز التدفئة بعد انقطاعه جرّاء الحرب الروسيّة ـ الأوكرانية؟ وهل يمكنه إقناع إيطاليا وإسبانيا واليونان، وكذلك الاتّحاد الأوروبي؟
لا تجد هذه الأسئلة أجوبتها بـ "ملكة الإقناع". الجواب الصلب عليها لدى العرب، وتحديداً لدى دول الخليج، وفي مقدَّمها المملكة العربية السعودية. هؤلاء على وجه التحديد هم ضمانات الجهات الدولية والدول المانحة للبنان.
بين السياسة والاقتصاد
ما تقوم به المملكة العربية السعودية يتلخّص بجملة واحدة، تتناسب مع المصلحة اللبنانية الصافية: "نحن نريد رئيساً يقوم بعملية استكمال تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني والدستور اللبناني والقرارات الشرعية الدولية". دفتر الشروط هذا إذا تحقّق تكون للرئيس المرتقب قدرة على إعادة ربط لبنان بدوائر القرار العربية والدولية.
أمّا إذا أتى رئيس وفقاً لشروط أخرى، أي رئيس يتقاطع مع الجانب الإيراني، فلن يوفّق في حلّ مشاكل اللبنانيين اليومية مع صندوق النقد الدولي ومجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية.
يحمل السؤال الذكي بطبيعته نصف الإجابة: هل يريد لبنان رئيساً للاقتصاد أم للسياسة؟ إذا كان الجواب هو الاقتصاد، فلا قيامة للبنان لا بالثروات البحرية الموعودة بعد 10 سنوات، ولا بصندوق النقد الدولي، ذلك أنّ السياسة هي خشبة الخلاص السياسي الاقتصادي معاً.
سياسات الهيمنة
منذ ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري حتى اليوم، أدّت سياسات الهيمنة اللاعقلانية وغير المفتوحة على أيّ تسوية إلى انهيار الدولة على نحو متتال. ولا يمكن قراءة الانهيار الاقتصادي والماليّ على أنّه حصل في السنوات الأخيرة. فهو نتاج تحويل البلد إلى ساحة انتظار لإيران. وسبقه تصديع ثوابت اتفاق الطائف الذي لا بديل سياسيّاً عنه اليوم.
كانت سياسات الهيمنة السبب لِما آلت إليه أحوال لبنان. ولا ترى هذه السياسات أنّ البلد "وطن"، وتصرّ على إبقائه ساحة مفتوحة للرهانات والتدخّلات الخارجية. وكلّ رهان على الخارج استدعاء لتدخّله على نحو يقوّض الداخل.
دولة ما قبل التأسيس
على امتداد عقود من تاريخ لبنان الحديث، منذ ما بعد الاستقلال تحديداً، تبدّلت دول الخارج المتداخلة سياساتها مع تبدّل الرهانات المحليّة عليها، سواء تعلّق الأمر بالدولتين الأوروبيّتين المستعمرتين فرنسا وبريطانيا أو أميركا أو الدول الإقليمية في إطار حلف بغداد مثلاً. وحتى تركيا كانت جزءاً من رهانات الداخل اللبناني. وأيّ قراءة للتسويات، التي حكمت البلد على الأقلّ منذ 1860 حتى الآن، تبيّن أنّها كانت ترجمةً لتسويات أعدّها الخارج وقبل بها الداخل. الداخل يقبل بتسوية تُفرض عليه نتيجة رهاناته الخاطئة وعجزه عن عقد تسويات مع شركائه الداخليين.
هذا الكلام موجّه لكلّ الذين راهنوا ماضياً على الخارج، ولحزب الله راهناً الذي يربط البلد بمحور يخاصم العالم كلّه ويُصلي الدول العربية حرباً لا هوادة فيها. وأفضل حظوظ هذه الحرب مزيد من عزلة لبنان.
كانت نتائج هذه التسويات تكرّس على الدوام الانقسام الأهلي، داخل الطوائف وما بينها. لحظات الانفجار التي عاشها البلد هي لحظات وصول التسويات السابقة إلى مرحلة الخلل، نتيجة تبدّل توازنات القوى المحلّية أو توازنات القوى الخارجية. والخارج ليس ثابتاً. يمكن أن ينتقل من الأميركي إلى الفرنسي إلى الإنكليزي فالروسي والإسرائيلي. واليوم هو إيراني.
هذا هو تاريخ البلد، وليس تجنّياً على أحد. وهذا ليس تزويراً لتاريخنا.
فإذا أردنا أن نصِف تضحيات اللبنانيين ودماءهم التي سالت تحت راية هذه الرهانات والمشاريع، يصبح لزاماً على حزب الله والإيرانيين قراءة كلّ هذه التجارب باعتبارها أخطاء وخطايا مورست بحقّ لبنان واللبنانيين.
اليوم، بعد تجربة 100 سنة على نشوء الكيان اللبناني، ينبعث السؤال التالي: ماذا بقي من الدولة اللبنانية التي بناها الانتداب الفرنسي؟ لا شيء. هكذا ارتدّت الدولة إلى ما قبل التأسيس.
*نُشر على صفحة أساس-ميديا